كتب جورج حايك: لم تعد قضية النازحين السوريين في لبنان تتعلق بحقوق الإنسان، بل تحوّلت عملية فرض من البرلمان الأوروبي على الدولة اللبنانية المهترئة، وهذا ما ظهر بوضوح من خلال البند الخامس عشر المتعلق بالنازحين السوريين، إذ لم يشر إلى ضرورة عودتهم إلى بلادهم، بل تحدث عن عودة طوعية وكريمة وآمنة للنازحين وفق المعايير الدولية، مشدداً على الحاجة إلى توفير تمويل كاف للوكالات التي تعمل مع اللاجئين في البلاد. وبلهجة التهديد، حذّر الاتحاد الأوروبي اللبنانيين من فرض الترحيل على السوريين، واتخاذ تدابير تمييزية بحقهم والتحريض على الكراهية ضدهم تحت طائلة العقوبات.
واللافت ان خلفية هذا البيان غير سليمة لأسباب عدة، أهمها ان كل القوى السياسية اللبنانية، رغم اختلافاتها الجذرية في رؤيتها للبنان، إلا أنها تتفق على وجوب عودة النازحين السوريين إلى بلادهم، لذلك تجاوز الأمر خطة اوروبية بإدماج هؤلاء النازحين بالمجتمع اللبناني والتوطين المقنّع إلى نوع من الاحتلال بمباركة اوروبية، وهذا ما لن يرضى به اللبنانيون رغم خلافاتهم.
أما السبب الأساسي الذي يستند اليه هذا القرار، رغم ان البرلمان الأوروبي لا يُعلن ذلك، فهو مخاوف الدول الأوروبية من موجة نزوح باتجاهها في حال أصرّ لبنان على إقفال ملف اللاجئين. ويبدو ان القرار وقح ويتجاوز الأطر الديبلوماسية التي تستوجب التفاوض مع الدولة المعنية والإقناع العلمي والمنطقي، لا ممارسة سياسة الفرض عليها.
لقد انتهت الحرب العسكرية في سوريا مبدئياً، فيما لبنان مهدد بالإنفجار بسبب أزمة نزوح، إذ يبلغ عدد اللاجئين السوريين في لبنان 1.8 مليون شخص، منهم نحو 880 ألفًا مسجلين لدى مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين.
ان السوريين في لبنان يتلقون المساعدات والأموال من 12 منظمة تابعة للأمم المتحدة، والبعض منهم يحمل بطاقتين، الأولى كنازح والثانية كعامل، وهو ما يعني فعليًّا المضاربة على اليد العاملة اللبنانية، وهذا ما يمنعه قانون العمل اللبناني حيث تغفو الوزارة المعنيّة عن شؤون مواطنيها. واللافت ان المفوضية العليا للنازحين في الامم المتحدة، تشجع هؤلاء النازحين على البقاء في لبنان من خلال اللقاءات التي تجريها معهم خلال تقديم اللقاحات لاطفالهم، وتحثّ الكبار على ان لا استقرار امنياً بشكل كامل في سوريا.
أما الحصص الغذائيّة التي تتلقاها كل عائلة شهرياً فتكفي لـ3 عائلات وهي “حرزانة”، فضلاً عن مساعدات التدفئة الماليّة رغم ان النازحين يستعملون خطوط شبكة الكهرباء بالسرقة، ويستعملون السخّانات الكهربائيّة والبرّادات، ويشكلون ضغطاً كبيراً على شبكة المياه من دون دفع أي رسوم للمياه والكهرباء، فيما تكاثر النفايات الناجمة عن مكان سكنهم يشكّل ضغطاً على البلديّات المضيفة للنازحين، علماً أن هناك مناطق آمنة في سوريا، بإمكان الأمم المتحدة إقامة مخيّمات للعائدين وتوزيع المساعدات لهم على أراضيهم ان كانت النوايا حسنة لإعادتهم، لكن لا قرار بذلك امميّاً ولا رغبة منهم. ومن يأكل ويشرب وينام ويُعالج صحّياً ويتقاضى راتباً شهريّاً بالعملة الصعبة على حساب الأمم المتّحدة، فيما الشعب اللبناني يجوع ويئن من الفقر المدقع، لن يذهب طواعية الى أرضه وبلاده.
أمام هذا الواقع البائس، تزداد المطالب الأميركية والأوروبيّة لوقف اعادتهم الى سوريا، والاخطر من ذلك، تخطّي المرجعيات الأوروبية حدود اللياقة والاحترام للكيان اللبناني وتوزيع سكّانه الديمغرافي من خلال المطالبة بتطويل أمد النزوح السوري على مدى الجمهورية اللبنانيّة، وهو ما يؤكد على السعي الدولي والعالمي لتوطينهم على الاراضي اللبنانيّة مع ما قد ينجم عن ذلك من انفجار اجتماعي!
إنّ مشروع الدمج سيؤدي إلى التوطين بل إلى الاحتلال، مما يلغي عودة السوريين الى بلادهم وأرضهم مع ما يحمل ذلك من تداعيات على لبنان وعلى سوريا على مختلف الصعد. ومنذ فترة خرجت إلى الأضواء ورقة خطيرة تقدّمت بها الـ UNHCR إلى الأمن العام، تطالب بإعطاء مليون و800 ألف نازح سوري حق الإقامة والعمل والتعليم وتثبيتهم في لبنان كلاجئين.
ورغم ضعف الدولة اللبنانية، عليها أن تستفيد من اجماع القوى السياسية المتعددة في البلد على رفض استمرار النزوح السوري ومواجهة المجتمع الدولي الظالم وغير الآبه بالوضع اللبناني المأساوي، إذ لم تعُد قادرة على تحمّل هذه الأعباء، لأن النازحين باتوا يشكّلون 30 في المئة من سكان لبنان، هذا فضلاً عن العواقب الإقتصادية والامنية والبيئية والضرر الكبير الذي لحق بالبُنى التحتيّة نتيجة زيادة المستخدمين لها. وتقدّر الخسائر بنحو ثلاثين مليار دولار أميركي.
إذاً السبيل الوحيد للحروج من هذه الأزمة بات رسم الدولة اللبنانية لخطة تضغط فيها على المجتمع الدولي بهدف حمله على إعادة السوريين إلى بلدهم، وقد تكون الخطة من خلال ورقة “غض الطرف” عن الهجرة غير الشرعية التي تهدّد أوروبا، أو من خلال استخدام السبل القانونية التي تتيح ترحيل النازحين، خصوصاً أنّه يُمكن إسقاط صفة النزوح عن كثيرين منهم، ممّن يزورون سوريا، إذ إنّ المساعدات التي تُعطى للنازحين في لبنان لن تتوقف.
فالإتجاه الأوروبي اليوم هو “التوطين المقنّع” الذي يعتبره اللبنانيون احتلالاً جديداً لجهة منح ما يزيد على مليون و800 الف نازح سوري إقامات في لبنان، بما يمنحهم امتيازات قانونية لجهة التعلم وامتلاك المسكن ومعظم الحقوق القانونية التي يتمتع بها المواطنون اللبنانيون. وكذلك في ما اعلنه مسؤول السياسة الخارجية بالاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل قبل فترة قصيرة، حول ان الاتحاد لن يدعم عودة النازحين السوريين إلى سوريا، إلا إذا كانت طوعية.
ان هذا القرار الاوروبي المتعلق بالنازحين مُدان شكلاً ومضموناً، إذ بدل ان يساعد المجتمع الدولي وتحديداً الاوروبيون على حل مشكلة النازحين السوريين وتسهيل عودتهم الى ديارهم، يمنعون هذه العودة ويعمّقون المشكلة اكثر… انه امعان في ابقاء هذه الازمة قائمة، وهو في الوقت ذاته مؤامرة كبرى تُحاك ضد لبنان، تتطلب موقفاً داخلياً جامعاً وموحداً لمواجهتها وتجنيب البلد تداعياتها الخطيرة. فالبرلمان الاوروبي سلك اتجاهاً أقل ما يقال فيه أنه معادٍ للبنان، ويصب في مصلحة النظام السوري الذي يرفض إعادة هؤلاء النازحين الى ديارهم. والمسؤول عن هذا القرار بعض الكتل في البرلمان الأوروبي من حزب “الخضر” واليسار الأوروبي، إضافة الى مجموعة الرئيس إيمانويل ماكرون من تمرير بند في البيان يؤكد دعم بقاء النازحين السوريين في لبنان.
وبات يحق للبنانيين التساؤل: لماذا لا تقوم الامم المتحدة بدفع المساعدات المخصصة للنازحين السوريين في سوريا وليس في لبنان، لتشجيعهم على العودة؟ علماً أن أغلب النازحين يرفضون العودة بهدف استمرار حصولهم على المساعدات المالية الدولية بـ”الدولار” وليس بسبب خوفهم من ردات فعل الدولة السورية، والدليل أنهم يدخلون ويخرجون عبر الحدود اللبنانية – السورية متى يشاؤون، وكثيرون منهم من يعمل في سوريا ويعود لقبض المساعدة المالية في لبنان.
ما يجري أن بعض الدول تعمل لبقاء هؤلاء النازحين في لبنان وتوطينهم، وتتعاطى مع ملفهم، كما جرى التعامل مع موضوع اللاجئين الفلسطينيين منذ العام 1948، وقد اعطتهم الامم المتحدة عبر قرارها 194 حق العودة، لكن المشروع الاسرائيلي منع ذلك بتواطؤ دولي-اقليمي-عربي وحتى لبناني!
التوطين المقنّع مرفوض، والامتيازات القانونية مرفوضة، ورفض دعم عودة النازحين السوريين إلى سوريا إلا إذا كانت طوعية تآمر على لبنان، والبرلمان الأوروبي لا يستطيع ان يصوِّت مع الشيء وعكسه، اي لا يستطيع ان يصوِّت مع مشروع الدولة والانتظام ومكافحة الفساد والشروع في الإصلاحات للخروج من الانهيار، وان يصوِّت مع استمرار النازحين الذي يشكلون عبئاً مالياً كبيراً وخطراً على هوية البلد وتكوينه وتعدديته.
فالبرلمان الأوروبي مطالب بالعودة عن قراره الداعم بقاء النازحين السوريين في لبنان، والشعب اللبناني ينتظر من الأوروبيين الدفاع عن النموذج الحضاري اللبناني وليس المساهمة عن قصد او جهل في تفخيخه وتفجيره.