كتب ابراهيم بيرم:
احتفاء محور الممانعة بانعقاد القمة العربية الاخيرة في الرياض، كان جلياً انه من باب انها قمة اعادت الاعتراف والاعتبار العربيين الى “شرعية” النظام السوري ورئيسه بشار الاسد بعد مضي اكثر من 12 عاماً على تعليق عضوية سوريا في الجامعة العربية ومؤسساتها، وبعد خطاب عربي اوشك ان يكون موحداً: “بشّر بقرب” زوال النظام البعثي الباسط هيمنته على مفاصل الحياة في سوريا منذ عام 1963 لحد اليوم.
وعليه، بالغ “الممانعون” وخصوصاً في لبنان في لعبة “الاحتفاء” بدعوة الرئيس الأسد الى المشاركة في اعمال القمة العربية الاخيرة، فسارعوا قبل انعقادها في جدة الى اطلاق مصطلح “عودة العرب الى الحضن السوري” وليس العكس، باعتبار ان سوريا ظلت ثابتة عند موقفها وهويتها وأن الآخرين هم من اضطر الى التحوّل.
وبعد القمة اختار هؤلاء تعبير ان (القمة) هي تجسيد بين “هزيمة المحور الخصم للمقاومة”، لا بل ان صحيفة الاخبار اللبنانية، الناطق الابرز بلسان محور الممانعة قد افرطت في لعبة التوظيف واستغلال الحدث والبناء عليه، عندما نشرت في صحفتها الاولى وفي عددها الصادر غداة القمة، صورة معبّرة للرئيس الاسد وهو في القمة، وكتبت تحتها بالخط العريض عبارة “عودة رجل شجاع”، وهو عنوان يعاكس عنوان احد ابرز روايات الروائي السوري الراحل المعروف حنا مينا والتي حملت عنوان “نهاية رجل شجاع”، وقد ذاعت شهرتها بعد ان حوّلت الى مسلسل تلفزيوني منذ زمن بعيد.
واذا كان يشهد لمكونات محور الممانعة انها قد نجحت الى حد بعيد في تلقف حدث القمة العربية، وفي الاستفادة من التطور المدوّي الناجم عن ظهور الرئيس الاسد في جدة وفي اروقة المؤتمر، وهو ما اتاح للبعض ان يطلقوا على هذه القمة “قمة عودة الاسد الى عرينه”، وهو ما طغى الى حد كبير على تطور آخر شهدته تلك القمة ويتمثل خصوصاً في مشاركة الرئيس الاوكراني زيلنسكي فيها وقد قيل لاحقا بأن الدعوة الداعية والمضيفة للقمة،وهي السعودية، قد وجهت اليه دعوة الحضور من خارج كل السياقات ليكون الأمر بمثابة توازن في مشهد القمة وكثمن لعبور الرئيس الاسد الى مقاعدها.
وكان بديهياً لمحور الممانعة ان “يصفق وقوفاً” لعودة سوريا ونظامها ورئيسها الى مقعدها في الجامعة العربية بعد أن اجلسوا على مدى اكثر من عشر قمم ممثلي معارضي النظام السوري في هذا المقعد، وكان طبيعياً ان يعتبر الامر كله حدثاً استثنائياً لا بل انه تطور لافت ينطوي على بعدين مهمين:
الاول، دليل على جدية الانعطافة التي طرأت في الاشهر القليلة الماضية على مسار السياسة الخارجية السعودية وهي التي قادها بجدارة وبراعة وبُعد نظر ولي العهد السعودي الامير محمد بن سلمان. ولقد بات معلوماً أن هذه الانعطافة وما تلاها من تحوّلات جسّدت “هوية سياسية” جديدة للمملكة تضعها على اعتاب مرحلة جديدة ومسار مختلف، ستتبدى نتائجه لاحقاً ولا ريب.
فمن يومها بدا واضحاً ان الرياض تعيد ترتيب اوراقها وخياراتها وعلاقاتها في الاقليم والعالم قاطبة، لدرجة ان ثمة خبراء استراتيجيين باتوا يتحدثون عن سعودية جديدة واعدة تنطلق لتوّها.
الثاني، هو ترجمة لمضامين الخطاب السياسي والفكري الذي يتسلح به محور الممانعة، وفحواه ان النظام الرسمي العربي اضطر ان يعيد الاعتبار للنظام السوري لأنه نجح في كسب الرهان والصمود في وجه عاصفة الهجمات الضارية التي شنّت عليه بقصد إزالته واجتثاثه من جذوره، وذلك بعد تمّت شيطنة هذا النظام وجرّدته من اي محاسن طوال اكثر من عقد من السنين، خصوصاً بعد ما سمي عصر “الربيع العربي” والذي تحوّل في خطاب رموز الممانعة الى “تجربة مدمرة” اشعلت الفتن وايقظت النزاعات الدموية في كل من سوريا والعراق واليمن وليبيا، فضلاً عن تونس ومصر اللتين كانتا السباقتين في قيادة هذا الربيع.
ويسهب فريق الممانعة في الحديث عن النتائج والتداعيات الكارثية لهذه الحقبة، فيقول احد ابرز الاعلاميين الناطقين بلسان هذا المحور ابراهيم الامين ان تلك الدول “ابتليت بفعل هذا الربيع بنكبات تعادل نكبة فلسطين المقهورة”.
ويخلص الامين الى الاستنتاج بأن “الامة العربية لم تعرف (من قبل هذا الربيع) هذا القدر من تفجر الاحقاد والحروب الدموية كالتي عاشتها بلداننا خلال الـ 15 عاماً الماضية”.
واللافت حسب تقديرات دوائر القرار في محور الممانعة، ان خصومه اعتبروا النظام السوري استهلالاً انه “الثمرة اليانعة” والحلقة الأضعف القابلة للسقوط، نظراً الى اتساع دائرة الكره له في الشعب السوري لكونه تحول الى نظام “اقلوي” ينتمي الى عصر انتهت مفاعيله هو عصر تأجج المشاعر القومية بفعل نكبة فلسطين، وهو العصر الذي وعد بتحرير الارض السليبة وانماء الانسان العربي، لكنه عجز عن تحقيق ايّ من الهدفين.
اما وقد اعاد النظام الرسمي العربي الاعتبار للنظام السوري وسحبه من لائحة الانظمة السوداء، واعاده استتباعاً الى صدارة المشهد العربي الجامع في قمة جدة (القمة العربية الـ32)، فان ذلك بالنسبة الى محور الممانعة بداية حدث عاصف لمصلحته، ويتوقع ان تتوالى نتائجه خلال الفترة المقبلة، وهو سيمتد ليشمل ساحات اخرى مرتبطة وفي مقدمها الساحة اللبنانية التي وان لم تنزلق الى مهاوي الفتنة، فانها باتت تعيش على وقع الاحداث والخضّات العربية.
ومع وجاهة هذا التطور، فانّ حاملي هذا الخطاب المبتهج والمستبشر ما زالوا ضمناً يقيمون على حذر من ما بعد القمة ومشاهدها المميزة، وخصوصاً بالنسبة الى مستقبل سوريا المنكوبة بكل المقاييس.
لذا فان السؤال المطروح بالحاح والذي يدور في خلد هؤلاء هو ماذا بعد؟
والسؤال من شقين:
الاول، ما المطلوب من دمشق المكسورة الجناح ان تقدمه في مقابل هذا الانفتاح العربي الواسع عليها، والذي ظهرت بوادره بعد الزلزال الذي ضرب قسماً من الجغرافيا السورية ورفع من منسوب معاناة الشعب السوري؟
والثاني، هل سيعاد الاعتبار الى الدور المركزي الذي لعبته دمشق طوال العقود الماضية، والذي كرّسها وفق قول السياسي اللبناني المخضرم الراحل جان عبيد “اكبر لاعب في المنطقة”؟ لكن الاحداث التي عصفت بها منذ عام 2011 حوّلتها الى اكبر ملعب على حد قوله، فليس خافياً ان اللاعبين في الميدان السوري باتوا كثراً يتقاسم كل منهم بقعة جغرافية معينة ويتصرف فيها تصرف المالك بملكه.
وتحت عنوان هذا السؤال، يندرج سؤال فرعي هو هل سيمد النظام الرسمي العربي يد العون الى سوريا ليعوّض عن النزف المالي والاقتصادي الكبير الذي منيت به طوال السنين الخوالي، أم سيكون ما حصل في قمة الرياض تعويضاً معنوياً لسوريا ثم تترك في قبضة الكارثة الى اجل غير مسمى؟
كل هذه التساؤلات المشروعة من شأنها ان تخفض ضمناً من منسوب موجة التفاؤل والاحتفاء الذي مارسه محور الممانعة اخيراً بعد “تخلي” النظام الرسمي العربي عن حكم الاعدام الذي كان اصدره بحق النظام في دمشق.