خاص “أخباركم”
كتب ميشال ن. ابو نجم، لا يمكن للعاطفة، لا بل الهستيريا من نوع تلك التي سادت المجتمع اللبناني في أيام ما قبل خطاب الأمين العام لحزب الله، أنْ تكون معياراً لتقييم رسائل السيد حسن نصرالله وإشاراته، لا بل الإستفادة منه لبنانياً. أما المواقف المسبقة والنمطيّة على مثال تلك السائدة في الإنقسامات السياسية اللبنانية، فينبغي رميها في سلة المهملات، في بلد لا يحتمل ضيق الأفق في مقاربة المخاطر الإستراتيجية التي تصنع مصيره كما مصير المشرق لا بل الشرق الأوسط برمته.
منذ اليوم الأول لمشاركة حزب الله في الحرب عبر استهداف المواقع الإسرائيلية الحدودية، بانت بوضوح معالم “حرب الإستنزاف” التي التَزمها في المواجهة. وهذا النوع من الحرب التي بادر إليها جمال عبد الناصر في العام 1969، تعني في شكلٍ آخر عدم انزلاق إلى الحرب الشاملة التي لها حساباتها ومحاذيرها، والتي تتخطى بالتأكيد عواطف شريحة كبيرة من اللبنانيين وبالتأكيد العرب. رسم “الحزب” الإطار على الميدان بين تخفيف الضغط على “حماس”، وبين مجموعة من المصالح، التي تبدأ من لبنان والظروف المختلفة عن 2006، وصولاً إلى العلاقة العضوية مع إيران والقوى المدعومة منها من العراق إلى شواطئ البحر الأحمر في اليمن.
وما ظهر في خطاب نصر الله بالأمس، لم يكن إلا تتويجاً لهذه الحسابات الدقيقة والعقلانية التي تتحكّم بقرار جسم عسكري وسياسي كحزب الله. بكلام آخر، أحبطَ العاطفيين من المؤيدين، وكذلك الشريحة التي تناصبه الخصومة والتي بانت في بعض ردودها مرتبكة لعدم توفيره مواداً لها للهجوم، وبين السخرية من عدم التورط في الحرب، وهو مطلبها بالأساس. على أنه في خلاصة ما قدمه نصر الله من عرضٍ مُفصل في الخطاب، لا يمكنُ أحداً تجاهل العامل اللبناني المؤثر في استراتيجية حزب الله الذي يأخذ بعين الإعتبار مصالح بيئته وجمهوره، وكذلك البيئة اللبنانية المحيطة. وفي ذلك ما يتوافق مع المصلحة اللبنانية العليا، التي عبّرت عنها شرائح عدة أبرزها التيار الوطني الحر والحزب التقدمي الإشتراكي، جامعة بين مصلحة لبنان وبين التضامن الطبيعي والتعاطف مع قضية الشعب الفلسطيني، في أكثر حرب وحشية يواجهها.
على أنَّ البعد الأهم المتحكِّم بقرار “الحزب” على ما أظهره نصرالله بوضوح متعمد، هو حساب الإصطدام بالعامل الأميركي الذي تحول سريعاً بعد “7 تشرين” إلى قيادة الحرب في شكل مباشر. انقلبت الأمور لدى الدولة العميقة أميركياً بعدما رأت حليفتَها الأساسية وربيبتَها تتعرض لأكبر صفعة في تاريخها، مؤسِّسةً لانقلابٍ وجودي أمام الكيان الإسرائيلي، فكان لا بد لحاملات الطائرات وكل مظاهر استعراض القوة الأميركية أنّ تحتشد في البحر المتوسط، الذي لم يشهد مثيلاً لذلك منذ الحرب العالمية الثانية. أميركا هذه، هي التي تريد استئصال “حماس”، لا نتنياهو المستفيد من “الحركة” لضرب السلطة الفلسطينية ومنع قيام أي عناصر لتأسيس دولة فلسطينية مستقلة في الضفة الغربية وغزة. أميركا التي تجهزت لخوض حربين كبريين إصافة إلى حرب إقليمية واسعة، ليست مسألة يمكن التعامل معها على قاعدة العواطف الشعبية، أو مشاركة صديق في “إشكال في الشارع”.
الأهم في هذه الحسابات الدقيقة، هو عدم الإنزلاق إلى محاولة التوريط الأميركية في ميدان وتوقيت لم يقرره حزب الله ولا إيران. وبين محاولة أميركا لا من تصفية “حماس” بل من التفكير بالتحول نحو حزب الله بعد الإنتهاء من غزة، وبين الحرب الشاملة الأميركية، هناك خيارات كثيرة، من بينها ما يحصل من شواطئ اليمن إلى غرب العراق، وصولاً إلى الحدود الجنوبية اللبنانية.
وما لم يقله أحد، أن الخطاب العقلاني هو أفضل وصفة للتعامل مع الوقائع، لا خطابات تحويل الهزيمة إلى انتصار لدى أنظمة ما بعد ال1967. أما المخفي وغير المقال لجهة عتب “حماس” على “حزب الله”، والفائض الإنتصاري الوهمي في جيوش المحللين والخطباء، فله كلام آخر…