كتبت ناديا شريم : مع ولادة لبنان الكبير في الاول من أيلول من العام 1920 اعتبر المسيحيون وتحديدا الموارنة منهم أن هذا الكيان هو كيان للمسيحيين في هذا البحر العربي المسلم واعطوا أنفسهم مع الوقت -وبمساعدة الفرنسيين- امتيازات جعلتهم يتحكمون بمفاصل البلد سياسيا واقتصاديا وامنيا واجتماعيا الى حد كبير.
وفي أيار من العام 1926 كرس المسيحيون هذه الامتيازات في الدستور وولدت الجمهورية اللبنانية وانتخب شارل دبوس المسيحي الأرثوذكسي كأول رئيس الجمهورية اللبنانية، وبالرغم من أن الدستور اللبناني لم يذكر بكل تعديلاته طائفة رئيس الجمهورية اللبنانية فقد كرس الميثاق الوطني هذا الأمر فكان كل رؤساء لبنان مسيحيون، وموارنة بعد الاستقلال.
بين عامي 1943 أي عام الاستقلال وعام 1975 أي عام اندلاع الحرب الأهلية أو حرب الآخرين على أرض لبنان كما يحلو للبعض أن يسميها، اهتز هذا الكيان أكثر من مرة لكنه لم يقع ونجح المسيحيون وتحديدا الموارنة -والى حد مقبول- بإنشاء هيكل دولة متين كان صالحا لو تم البنيان عليه لكن هذا الهيكل بدأ بالانهيار مع بداية الحرب وبدأت تنهار معه ما كان يعرف بالمارونية السياسية التي صمدت 32 عاما رغم كل الخلافات والتحديات بين المسيحيين أنفسهم من جهة وبينهم وبين مكونات الوطن الأخرى من جهة أخرى.
في العام 1975 ومع تصاعد الدور الفلسطيني وسيطرة منظمة التحرير على القرار اللبناني وانتشار السلاح مع المنظمات الفلسطينية والحديث عن نية لتوطين الفلسطينيين في لبنان شعر المسيحيون بالخوف على “كيانهم” فكان القرار بحمل البندقية والدفاع عن الوطن حتى النفس الأخي، وهنا كلنا يتذكر العرض الذي قدمه السفير الأميركي دين براون للرئيس سليمان فرنجية أوائل الحرب بعد أن عرض عليه ترحيل المسيحيين بالبواخر.
على امتداد الحرب التي بقيت 15 عاما استشرس المسيحيون في الدفاع عن القضية التي كانوا يختصروها “بفرض التوطين”وربحوا هذه القضية ،لكنهم خسروا “كيانهم ” بكل ما للكلمة من معنى لأسباب خارجية وداخلية كان أهمها انقساماتهم وخلافاتهم وحروبهم الداخلية وأهمها حرب الإلغاء بين رئيس الحكومة العسكرية آنذاك العماد ميشال عون وقائد القوات اللبنانية سمير جعجع والتي شكلت الحجة الأقوى والاضمن لضرب المسيحيين سياسيا ، وقد تكرست هذه الخسارة بإتفاق الطائف الذي أصبح دستورا أخذ الكثير من صلاحيات الرئيس المسيحي ليعطيها لمجلس الوزراء مجتمعا .
بعد الحرب وولادة الطائف خرج المسيحيون منهكين سياسيا واقتصاديا وحتى اجتماعيا وتشتت قيادتهم السياسية بين أمين الجميل إلى ميشال عون إلى سمير جعجع كما وتسببت الحرب بهجرة إعداد كبيرة منهم، لكن الأخطر من كل ذلك شعورهم بأنهم لم يعودوا معنيين بالدولة ولا بمؤسساتها فإبتعدوا عنها إلى حد كبير مما أعطى الآخرين فرصة كبيرة لتمكين أنفسهم داخل مؤسسات الدولة لملأ الفراغ وهو ما انعكس مزيدا من الضعف عليهم مع قبضة سورية حديدية ساهمت في خنقهم إلى حد كبير .
في الرابع عشر من شباط من العام 2005 وقع الزلزال الكبير حيث اغتيل رئيس الحكومة السابق رفيق الحريري فإهتز لبنان بكل ما للكلمة من معنى وشكل هذا الحدث السبب المباشر لإنسحاب القوات السورية من لبنان بعد 28 سنة من الوصاية أو الاحتلال حيث غادر آخر جندي سوري لبنان في السادس والعشرين من نيسان من العام نفسه.
في السابع من آيار عاد الجنرال ميشال عون من المنفى بعد سبعة عشر عاما من المنفى وفي الثامن عشر من تموز خرج الدكتور سمير جعجع إلى الحرية بعد أحد عشر عاما من السجن وتبعهما الرئيس أمين الجميل، فتنفست الساحة المسيحية التي لم تكن تدرك يومها أن صفحة الصراع بين عون وجعجع لم تطو على الرغم من أن عون كان قد زار جعجع في السجن قبل إطلاق سراحه بموجب قانون عفو خاص صدر عن مجلس النواب.
مع خروج جعجع وعون تجدد الصراع القديم -الجديد بين الرجلين وعاد المسيحيون إلى تخبطهم وما زاد من هذا التخبط الانقسام السياسي اللبناني العامودي بين فريق 14 آذار الذي نادى بالخروج السوري من لبنان و ضم كل من كان ضد سوريا وفريق 8 آذار الذي طالب ببقاء سوريا في لبنان وضم كل من كان معها.
ورغم كل المحاولات لتخفيف الخلافات بين الرجلين إلا أن الحسابات الداخلية والارتباطات الخارجية كانت تطغى على كل شيء وتمنع أي تلاقي وتنعكس على الدور المسيحي على كل الأصعدة بدءا برئاسة الجمهورية الحكومة و المجلس النيابي وانتهاء بالجامعات مرورا بإدارات الدولة والنقابات والجمعيات وما “زاد الطين بلة “أن الآخرين استفادوا من أخطاء المسيحيين وانقساماتهم إلى أبعد حدود ليسيطروا على الدولة إلى أبعد حدود.
الا انه ومع بداية العام 2016 وتحديدا في الثامن عشر من شهر كانون الثاني ،وبعد جهود حثيثة قام بها كل من النائب ابراهيم كنعان والنائب ملحم رياشي-الذي كان صحفيا مقربا من معراب توصل التيار الوطني الحر والقوات اللبنانية إلى ما سمي بإتفاق معراب وافق بموجبه القوات على وصول ميشال عون إلى بعبدا مقابل مكتسبات تحصل عليها خلال العهد، ورغم وصول عون إلى رئاسة الجمهورية في 31 تشرين الأول من العام نفسه بعد سنتين ونصف من الفراغ لكن التفاهم لم يصمد وعاد كل طرف إلى متراسه السياسي وعادت الاتهامات المتبادلة بين الطرفين والتي وصلت في بعض الأحيان إلى حد التخوين.
أما اليوم وبعد حوالي سنة وثلاثة أشهر على الفراغ الجديد فقد دخلت أكثر من شخصية على الساحة السياسية لتزيد من انقساماتها في وقت بات انتخاب رئيس الجمهورية تفصيلا إلى حد كبير ذلك أن مشكلة المسيحيين لم تعد في السياسة ولا في الاقتصاد ولا في الامن وهي مشاكل تراكمت منذ السبعينات دون وضع حلول جدية على المستوى الاقتصادي او حلول استراتيجية على المستوى السياسي .
لقد تحولت المشكلة المسيحية في لبنان إلى مشكلة وجودية إلى حد بعيد وهو ما بات يحتم عليهم طرح عدة اسئلة على أنفسهم كمكون رئيسي من المكونات المؤسسة للبنان وهي ، هل كانوا جديرين بتسلم وطن وهل كانوا قادرين على حكمه ؟هل يتحملون وحدهم مسؤولية ما وصلوا اليه؟والسؤال الأهم هل ما زالوا قادرين على استكمال دورهم كمجموعة أساسية في الوطن ام انهم سيصبحون على رصيفه ينتظرون التعليمات في الداخل والخارج؟
للرد على كل هذه الأسئلة يحتاج المسيحيون وبشكل سريع إلى عدة أمور :
اولها: أن يكونوا السباقين بإنشاء أحزاب حقيقية تساهم في تربية مواطن وليس في تربية شخص مسيحي ينتمي إلى الوطن وذلك لان المواطن وحده هو من يطالب بوطن ولا يرضى بوطن -مزرعة .
ثانيها:أن يكونوا السباقين بالمطالبة بإلغاء الطائفية السياسية على كل المستويات واعتماد الكفاءة في الوصول إلى كل المراكز بدءا من رئاسة الجمهورية.
ثالثها: أن يعملوا مع شركائهم على تحديد الدور الجديد للبنان جديد في مرحلة ترسم فيها معالم شرق أوسط جديد، لان لبنان المصرف والجامعة والمستشفى قد انتهى.
والأهم من كل هذا أن يكون لديهم الجرأة للإعتراف بالخطأ وتصحيحه لعل المكونات الاخرى ترث منهم هذه الإيجابية كما ورثت منهم اخطاء الماضي…