كتب ابراهيم بيرم:
تكاد احداث قصة الروائي العالمي غابرييل ماركيز “قصة موت معلن”، تنطبق على تفاصيل عملية اغتيال القيادي العريق والصلب في حركة “حماس” الشيخ صالح العاروري.
فالرجل المتخصص حصراً في علم الاصول والعقائد الاسلامية، “علمته” القيادة الاسرائيلية منذ اكثر من نصف عام كهدف مباشر لجهازها المخابراتي. وقد ورد ذلك على لسان رئيس وزرائها بنيامين نتنياهو، وردده من بعده قادة اساسيون في المنظومة العسكرية والامنية في تل ابيب، فضلاً عن الجائزة المالية المغرية والسخية التي وضعتها الادارة الاميركية ثمناً لقطع رأسه وانهاء “شره المستطير”.
وبناء على هذه الوقائع العتيدة، يمكن الاستنتاج بأن اسرائيل حققت عبر اغتيالها للعاروري المعروف بلقب الشيخ، هدفين ثمينين بضربة حجر واحد.
فهي اولاً انجزت وعيدها ووفت بتهديدها، واكدت ان يدها الامنية طويلة ولا هدف يستعصي عليها.
وهي في الوقت عينه، القت قفاز التحدي في وجه حزب الله عندما قتلت الرجل الواعد والحليف الصادق له، المفروض انه تحت عباءة حمايته، وانه ضيفه في عرينه، فصار مباشرة تحت انظار السائلين عن طبيعة الرد وحجم العقاب للجريمة المدوية.
عندما جاهر نتنياهو قبل اشهر بصراحة مطلقة، ان العاروري اللائذ بحمى الحزب وكنفه، قد ادرج في بنك اهدافه موحياً بأن “اصطياده” بات مسألة وقت ليس الا، تعمد اعلام (ا ل ح ز ب) يومها توزيع صورتين الاولى تجمع الرجل – الهدف مع الامين العام للحزب السيد حسن نصرالله، والثانية تظهر العاروري وقد ارتدى ثوب الميدان المرقط وهو جالس الى طاولة.
كان ذلك الفعل الاعلامي، بمثابة رد عاجل ومباشر بالصورة والرمز على التهديد الاسرائيلي المكشوف، مردفاً ذلك بكلام مباح اطلقه سيد (ا ل ح ز ب) حذر فيه بان الرجل – الضيف خط احمر، وان المساس به تجاوز واعتداء مباشر علينا يوجب عليه ( ا ل ح ز ب) الرد ميدانياً على اي استهداف له.
في ذلك الوقت، كانت الجبهة الجنوبية تعيش هدوءاً نسبياً يعكر صفوه بين الحين والاخر حادث محدود من هنا ( خيمتا ا ل ح ز ب المقاماتان تحديداً على تخوم مزارع شبعا المحتلة ) او مناورة من هناك او اجراءات ميدانية استفزازية من هنالك، وكانت ترجمة (ا ل ح ز ب) للتهديد الذي اطلقه سيده حينذاك تعني كسراً لحدود امر واقع وفتحاً لابواب مواجهات .
وعليه، فان الحرب المستعرة منذ شهرين ونيف على جبهة الحدود الجنوبية، قد اعفت السيد نصرالله و(ا ل ح ز ب) عموماً من مهمة الوفاء بالوعد والتهديد، اذ ان ابواب الحرب مفتوحة على مصاريعها، وهي حرب لئيمة تستخدم فيها اشد انواع الاسلحة فتكاً ودماراً
اذن الحساب لم يعد هذه المرة مضبوطاً وقد صار (ا ل ح ز ب) معفياً من مهمة ان يضع “امر الرد ” في رصيد الحسابات المؤجلة والمهمات المرجاة الى حين.
وعليه، فان انتظار ما سيطلقه السيد نصر الله في اطلالته الاخيرة (قبل اقل من شهرين) من مواقف لم يعد يحظى بالاهمية الكبرى، فهو اعلن منذ اقل من شهرين معادلة مكثفة لكنها بالغة الاهمية، عندما قال ان الكلمة هي الان حصراً للميدان وان اي كلام آخر سيكون تبياناً لما يجول ويدور فيه او ما يمكن ان يتمخض عنه، ولا احد ينتظر منه ان يتحلل من هذا الكلام الذي يعني امراً واحداً ان المواجهات مفتوحة ما دام العدوان الوحشي الاسرائيلي متوالياً ومستمراً
وبعده حسم المسؤول عن وحدة الاعلام في الحزب محمد عفيف الموقف وقطع دابر التساؤلات والتكهنات، عندما قال صراحة: اننا نخوض على الحدود حرباً حقيقية وجدية.
واذا كان الرجل يستكمل ما قاله سيده، فالاكيد
انه كان يريد ان ينفي صفة التراشق والمشاغلة عن المواجهات الدائرة بضراوة وعنف على طول الحدود الجنوبية مع الاراضي المحتلة من جهة، ويريد ايضا ان يرد رداً مفحماً على الذين يبدون خشية او رغبة من انزلاق الحزب الى حرب مفتوحة تخلو من قيود وشروط مع الاحتلال الاسرائيلي . اذ ان السؤال عن تداعيات المعركة واحتمالاتها في زمن المعركة الدائرة، يصير مضيعة للوقت وسؤالاً في غير محله.
لأكثر من اعتبار وحساب، حاضراً ومستقبلاً، بدأ تشظي جسد الشيخ العاروري ورفاقه في قلب الضاحية الجنوبية، بمثابة الصيد الاثمن لتل ابيب في الحرب التي فرض عليها ان تخوض غمارها بتكاليف عالية منذ السابع من تشرين الاول الماضي. فلم يعد خافياً ان الرجل الصريع اول من امس:
- هو الضلع الثالث في المثلث القيادي القابض بجدارة على زمام التحكم والسيطرة في حركة “حماس” منذ التحول القيادي فيها وفي سياستها ونهجها والذي ابعد فريقاً له سماته ومواصفاته وحساباته، واتى بفريق آخر حاسم في خياراته وتوجهات وقاطع مع المرحلة الماضية التي تعد حقبة ضياع البوصلة.
- وهو ايضاً احد الذين يأتمنهم محور المقاومة كليا وعلى نحو لا يرقى اليه الشك، على هذا الارث النضالي- الجهادي الضخم اي حركة “حماس” والخارج لتوه من عباءة تنظيم ” الاخوان المسلمين” وان ظل محافظاً على خيوط العلاقة معه باعتباره الرحم والمهد.
وهو ايضاً وايضاً احد الذين اتقنوا تنفيذ مهمة” اعادة تنظيم ” الساحة اللبنانية على نحو “غربل” مكوناتها الفلسطينية العريقة والمتجذرة وجمع شتاتها، موجداً لحركته الحديثة الوفود الى هذه الساحة حيزاً واسعاً واصيلاً في مخيمات اللاجئين التي كانت الى الامس القريب تحت سلطة وسطوة “الخصوم” التاريخيين للحركة والمتوجسين خشية من انتشارها وغزوها لمرتكزات وجودهم فيها.
فضلاً عن دور ملموس ومميز، اداه الرجل الذي لم يمر على دخوله الساحة البنانية اكثر من عام وبعض عام، في اعادة وصل ما انقطع بين محور المقاومة والاطر الاسلامية السنية اللبنانية الحزبية السباقة. لذا لم يكن غريباً ومفاجئاً ان تسارع “الجماعة الاسلامية” في لبنان الى الاعلان عن عودتها الى ساح الجهاد العسكري وتكشف عن مشاركة مجموعات عسكرية تنتمي لها ( قوات الفجر) في الانشطة العسكرية على الحدود امتداداً لفعل لها سابق في هذا الميدان. كما لم يكن مستغرباً ان تستعيد المجموعات الاسلامية في صيدا والجنوب حيويتها وتفرض نفسها امراً واقعاً ورقماً في عاصمة الجنوب وبوابته.
كذلك لم يكن مفاجئا ان يكشف النقاب اخيراً عن اصوليين من طرابلس والشمال سقطواعلى نحو مفاجىء بصواريخ مسيرات العدو في الجنوب وهم في طريقهم مع احد مسؤولي حماس العسكريين في رحلة استكشاف واستطلاع الى جبهة الحدود الجنوبية المشتعلة.
فكل تلك تطورات ميدانية تنطوي على تطورات وتحولات بالغة الاهمية ينسب امر اعدادها والتحضير لها للشيخ العاروري الذي اوكلت اليه مهمة ايجاد قوة مقاومة اسلامية سنية في الجنوب تأخذ مكانها الى جانب مقاومة (ا ل ح ز ب) اعداداً للمستقبل.
واذا كانت اسرائيل قد عرفت كيف تضرب ضربتها الموجعة وترد ردها القاسي على نحو صار بامكان نتنياهو ان يخرج الى الضوء بصورة المحقق ل”نصر عظيم وفتح مبين” على حماس التي باغتته ووجهت اليه ضربة مدوية عندما اقتحمت غلاف غزة الحصين، فان السؤال كيف سيكون رد المحور الذي صارت حماس واحداً من مكوناته ؟
الاجابة التي تنوجد عند ذوي الصلة بهذا المحور، تتمحور حول امر اساسي ان هذا السؤال لا يسأل ما دام الميدان مستعراً على هذا القدر من الضراوة، فطبيعة الرد ومداه وحدوده امر تقدره القيادة الميدانية وفق نهج يخلو من اي انفعال.
وفي كل الاحوال، ليس جديداً على بيروت ان تكون جزءاً من قوة المقاومة الفلسطينية ورصيدها،وتدفع ثمن هذه القناعة وهذه الهوية. ففي مطالع السبعينات بدأت اسرائيل “عصر” الاعتداءات السافرة وعمليات الاغتيال في قلب العاصمة اللبنانية، وفاتحة الامر كانت عندما اغتالت وحدة اسرائيلية ثلاثة من ابرز قاتدة حركة “فتح” يومذاك كمال عدوان وكمال ناصر وابو يوسف النجار الذين تم اصطيادهم في شققهم في ساعات الفجر الاولى على يد قوة كوماندوس اسرائيلية نزلت على شاطىء الرملة البيضاء وتسللت الى فردان لتؤدي مهمتها وتعود من حيث اتت، وبعدها كرت سبحة الارهاب والاغتيالات.
وهكذا وبعد اكثر من نصف قرن تعود اسرائيل لتمارس اللعبة القاتلة نفسها عبر اغتيال العاروري، والاختلاف هذه المرة ان الاغتيال تم بالمسيرات وفي ساعات المساء الاولى والميدان الضاحية الجنوبية وليس العاصمة.
وهذا ان دل على شيء فعلى امرين اثنين: - ان كل محاولات فصل بيروت عن القضية الفلسطينية تهاوت.
- ان كل الجهود التي بذلت للايحاء بان لبنان قد بدل قناعاته وهويته التاريخية قد ذهبت ادراج الرياح.
الفارق الكبير ان تشييع القادة الثلاثة قتلى مطالع السبعينات كان مليونياً ومشهوداً، والاكيد ان تشييع العاروري لن يكون بمستوى الحشد الذي جرى حينها لجثامين القادة الكبار ولن يكون مدخلاً لانفجار حرب اهلية كما حصل بعد الاغتيال بنحو ثلاثة اعوام.