كتب ميشال ن. أبو نجم:
قد يبدو الحديث عن تقاطع أو التقاء ولو مؤقت بين الحزبين الأكثر تمثيلاً على الساحة المسيحية اللبنانية، ضرباً من الخيال، بعد كل ما شابَ تجربة التفاهم الموقع عام 2016، قبيل انتخاب الجنرال ميشال عون رئيساً.
لكن سياسياً، تولِّد التطورات والتغيّرات أحياناً كثيرة، ما يوسِّع أفق الخيال ويستدعي طرحَ الأسئلة. وإذا كانت فرضية تفاهم “التيار” و”القوات” مجدَّداً لاختيار رئيس بعيدة الإحتمال نظرياً، فإنَّ الخيال السياسي يستدعي أيضاً التفكير في سيناريوهات من الهدوء والإستقرار الذي يعقِب الحرب الدائرة من غزة إلى جنوب لبنان فالبحر الأحمر.
والخيال السياسي نفسه، يعيدُ سلسلةً من المحطات إلى الواقع الحالي. في العام 1987، التقى أمين الجميل وسمير جعجع في القطارة بحضور كريم بقرادوني ونادر سكر، وكان تقاطعٌ على رفضِ مجموعةٍ من المرشحين من بينهم قائد الجيش ميشال عون. وبعد إسقاط ترشيح سليمان فرنجية الجد بالقوة العسكرية والحواجز التي نصبتها “القوات” في المنطقة الشرقية، تقاطعت الإرادتان الأميركية والسورية على مخايل الضاهر، فكان الرفض المسيحي الجارف. وبعد “ليلة الكونياك” الشهيرة، عيّن أمين الجميل ميشال عون رئيساً للحكومة العسكرية، وتقاطع سمير جعجع مع “حكومة الإستقلال”، كما وصفها، وانقلب قائد “القوات” على الجميل مقتحِماً عرينه في المتن الشمالي، قبل أن تخوض القوتان العسكريتان صراعاً مريراً أوصل الوضع اللبناني والمسيحي الحالي إلى ما وصل إليه.
في ال2015، كان ميشال عون وسمير جعجع على طرفي نقيض من الحرب السورية وتداعياتها على لبنان، إضافةً للعلاقة مع حزب الله و”تيار المستقبل” وما يعرف ب14 آذار. مع تسارُع التطورات وتقدم المناقشات، انقلبت الأمور إلى ما عُرف ب”تفاهم معراب” وأنتج جواً مسيحياً جارفاً لم تستطع كل القوى الممثلة للطوائف الإسلامية إلا أن تأخذه بعين الإعتبار.
طبعاً، بقية القصة معروفة. سقطَ الإتفاق أو التفاهم في حسابات التقاسم السياسي والوظيفي والرهانات، واستعيدت الأجواء التناحرية نفسها بين الجانبين، وأتت مشاركة “القوات” في “انقلاب 17 تشرين”، لتعيد رسم خطوط التماس على نهر الكلب والشيفروليه وجل الديب والمناطق المسيحية عموماً.
الخيال السياسي نفسه، لا بل المعطيات وواقع الأمور إقليمياً، يعيد كل الإحتمالات إلى الطاولة. لا شك أن كل فريق متموضع في موقف سياسي ولا يريد أن يستفيد الآخر منه، لكن حتى كل هذه التجارب، لم تمنع إنتاج التقاطع على جهاد أزعور، كمرشح في مواجهة ما سمته القوى المسيحية اللبنانية “مرشح الفرض”.
الأهم هو فيما يخفيه هذا التقاطع، من رفض سليمان فرنجية الجد عام 1988 إلى الحفيد عام 2023. لا شك أن المجتمع الماروني اللبناني السياسي، يختزن نزعةً بنيوية للتناحر على الزعامة منذ أيام المقدمين، وأتت رئاسة جمهورية لبنان الكبير لتكرّس هذا التناحر أمراً واقعاً، وتزيد من حدّته. لكن ما يغيب على كل التحليلات ومحاولات تسخيف هذه التقاطعات وربطها فقط بالمصلحة السياسية، أن ذاتية القرار والإستقلالية التي نفَحتها أودية لبنان في البيئة المارونية تحديداً، هي التي توجِّه العقل الباطني والواعي في رفض أي إسقاط “خارجي” ومحاولة فرضه على مسيحيي لبنان.
أتت “حرب تشرين الفلسطينية” لتفجر زلزالاً في العالم العربي والشرق الأوسط. أميركا التي تشاهد ربيبتها تتخبط وتقترب من شفير الهلاك، لم يعد بإمكانها أن تبقي إسرائيل وكيلاً أوحد لها في المنطقة. وعندما يتوسع قوس البيكار إلى سواحل البحر الأحمر وباكستان وكردستان العراق، لا تعود الرسائل الصاروخية والنارية تعبيراً عن المواجهة فقط، بل عن مشهد تقاسم النفوذ الأميركي – الإيراني القادم، تعبيراً عن نتائج ما بعد الحرب الدامية.
ولبنان هذا، الواقع على خط الزلازل، ليس بعيداً عن رسم أدواره المقبلة. هنا، يطمئن مخضرمون إلى أن البلد المذكور في الكتب المقدسة، لا يُمكن أن يُصرف هدية لأحد. لا بل أنَّ سقفه أكبر من الجميع مهما عظمت قوتهم. جبران باسيل كان معبّراً بوضوح عن هذه الخلاصة في مقابلته التلفزيونية الأخيرة.
هنا، يصبح إنتاج رئيس الجمهورية القادم، محط تجاذب شديد في معادلة صياغة المشهد القادم. والمعادلات الخارجية، المُعبَّر عنها في “الخماسية”، لا تلغي الموازين الداخلية ولو أثّرت أو قادت قسماً كبيراً من القوى النيابية. وفي هذه الحال، يصبح كل من “التيار الوطني الحر” و”القوات اللبنانية”، أمام التقاطع العملي على الرغم منهما، ومهما كانت حدة الخصام كبيرة ومريرة.
هما المعنيان الأولان بالإجابة على سؤال: من يصنع رئيس الجمهورية أساساً، أنتما ولو كنتما تديران ظهركما للآخر، أم ثنائية حزب الله – “أمل”؟