كتب ابراهيم بيرم لاخباركم – اخبارنا:
الاكيد ان فوز مرشح التيار الوطني الحر بمنصب نقيب المهندسين في بيروت، لم يكن الاول من نوعه الذي يحققه التيار البرتقالي في مسيرته السياسية التي تلت عودة مؤسسه العماد ميشال عون من منفاه الباريسي في عام 2005، لكن حفاوة التيار الجامحة مع ذلك الفوز الذي تبدى جلياً مساء الاحد الماضي، بدا فريداً من نوعه بل ومبالغاً فيه، اذ اظهر ابتهاجاً غير مسبوق في مسيرته السياسية الطويلة والمتعرجة.
فمن الواضح ان التيار يبذل جهداً استثنائياً لكي يرفع من قيمة هذا الفوز المبين، ويرفعه الى مقام الحدث المدوي، واستطراداً لكي يطلق بعدها حملة معززة بأرقام النتائج لكي يقدم برهاناً على ان تلك النتيجة انما هي شهادة له تثبت بأنه ما زال حاضراً في ساحته ومتجذراً في بيئته.
الامر لم يكن مفاجئاً لراصدي مسار هذا التنظيم خصوصاً في مرحلة ما بعد خروج مؤسسه العماد ميشال عون من قصر بعبدا مصحوباً بانهيارات غير مسبوقة على المستويات المالية والامنية والسياسية.
فبعد وقت قصير من وصول الرئيس عون الى مقره الجديد في الرابية في نهاية ولايته الرئاسية، انطلقت قيادة التيار في رحلة لتحقيق هدفين:
الاول اثبات انه ما زال حاجة في دورة الحياة السياسية المسيحية واللبنانية، واظهار ان تجربته المتعثرة في الرئاسة الاولى لا تعني بالضرورة ان دوره تقلص لمصلحة خصومه التاريخيين وانه بات يمكن الاستغناء عنه.
الثاني كان لزاماً عليه ان يثبت انه قد انطلق ايضاً في رحلة مراجعة معمقة لتجربته في الحكم والسياسة تتطلب منه اعادة النظر بكل الخيارات التي اعتمدها والمواقف التي اتخذها، وفي مقدمها تحالفاته وتفاهماته التي عقدها، وابرزها تفاهمه مع حزب الله. بمعنى آخر وجد التيار انه يتعين عليه تقديم نموذج مختلف ونمط آخر في التحالف والتفاهم والخصومة على حد سواء.
لم يكن ذلك مستغرباً لأن التيار وجد نفسه في لحظة معينة امام تحد وجودي، خصوصاً ان نتائج الانتخابات الاخيرة اعتمد عليها كثر لكي يثبتوا ذلك لا سيما وان خصومه الكثر قد “عيّروه” بأن دعم حزب الله له هو من امّن له هذا الحصة النيابية الوازنة من خلال كتلة من 8 نواب في دوائر عدة. وانه لولا هذا الدعم لما كان للتيار الحصة المسيحية الثانية في المجلس الحالي.
والواضح ان قيادة التيار امتلكت امام هذا التحدي جرأة التخلي عن خيارات سابقة، والانطلاق نحو خيارات أخرى بدت مغايرة ومضادة، لكي يبعث الى من يهمه الامر برسالة تنطوي على امرين:
الاول ان الجزء الاكبر من خساراته عائد الى تعهداته السياسية السابقة، وانه على شفير التخلي عنها لمصلحة خيارات وحسابات جديدة.
وهكذا مشى التيار خطوته الاولى في رحلة الالف ميل الجديدة، اذ لم يترك مناسبة الا وبرهن فيها انه خرج عن تفاهمه مع (ا ل ح ز ب) وانه اصبح طليق اليدين. ولقد وجد الحجة المقبولة عندما انطلق (ا ل ح ز ب) متفرداً في خوض غمار حرب حدودية، ليس هناك ما يستدعي ان يخوضها ويتورط ويورط لبنان فيها، وهي حرب اسناد غزة.
وثمة حجة اخرى، وهي رفضه الالتزام بالخيار الرئاسي للحزب، لا سيما وقد كان خياراً حصرياً لا تراجع عنه.
عموماً، كان يسيراً على التيار ان يسحب جسور علاقاته التفاهمية مع الحزب ليبث انطباعاً فحواه بأنه قد بدأ عهد تحول سياسي جديد يقارب ان يكون ولادة حديثة، ولكن هذا النهج الجديد لم يكن ليضمن له استرداد ما فقده من رصيد كبير في ساحته اعطاه حق الامساك بأكبر حصة مسيحية نيابية وازنة طوال اكثر من اربع دورات نيابية. ومع ذلك، لم يبدو التيار يائساً وظل مثابراً من خلال اتباع سياسة الابواب المفتوحة على اوسع مساحة من القوى بما فيها تلك التي رفع لواء الخصومة ضدها سابقا، واتبع في المقابل نهج التعامل بالقطعة وهو تعبير ورد على لسان عدد من رموزه مراراً في الآونة الاخيرة.
وبناء عليه، وفيما كان رئيس التيار جبران باسيل يطلب من رموز تياره مشاركة كثيفة في مراسم دفن جثمان المسؤول في حزب القوات اللبنانية باسكال سليمان، كان قد نجح في نسج تفاهم مع الثنائي الشيعي ضمن له فوز مرشحه لمنصب نقيب المهندسين.
واذا كان باسيل قد امّن بذلك اول فوز عليه “القدر والقيمة” يثبت انه ما زال رقماً صعباً في المعادلات الداخلية، فان ثمة اقراراً ضمنياً في وسط الثنائي الشيعي، بانهم قد تجاوزوا الكثير من الاعتبارات والعديد من المآخذ على باسيل وخطاباته الاخيرة التي اتصفت ب “العدائية”، لكي يحققوا امراً هو مصلحة مشتركة لأطرافه الثلاثة، وهو الرد على لغة العدائية المفرطة لرئيس حزب القوات ضد الثنائي، وهو الذي تباهي اخيرا في اطلالة اعلامية بدور رأس الحربة الحصري لمواجهة الشيعية السياسية في لبنان، لا سيما بعد ان انسحب الآخرون طوعاً وقسراً من اداء هذا الدور وتحمل هذه المهمة.
ويبدو وضحاً ان الرئيس بري تولى في تصريح ملفت له اول من امس، الاعلان عن المضي في المواجهة، وذلك عندما اكد رفضه المطلق لفصل الجنوب عن بقية لبنان عبر حرمانه من الانتخابات البلدية، معتبراً ان في طوايا هذه الدعوة استعادة لخطاب الحرب الاهلية، داعياً جعجع بالاسم ان يستوعب الامر.
وبحسب مقربين من عين التينة، فان بري ليس في وارد فتح ابواب مواجهة مع احد، لكنه انما يرد على سيل من الاتهامات من جانب جعجع وآخرين من الشارع المسيحي بدت وكآنها رغبة في اعلان المنازلة واسترجاع مناخات ما قبل اتفاق الطائف.
وفي كل الاحوال، ثمة من يجد في هذه المناخات نذر تصعيد سياسي مقبل خصوصاً وان بري بدا للتو وقد تخلى عن دوره المعهود في تدوير الزوايا.