كتب عبد الرحيم التوراني لأخباركم أخبارنا: لم يحظ خبر “فرار 14 إماماٌ مغربيا” بفرنسا، بما يلزمه من نقاش واهتمام خاص، ولم يقابل بما يستحقه من تمعن واستخلاص للدروس واستنباط للعبر، وجرى التعامل مع الحدث بأسلوب لا يخلو من تنكيت وسخرية.
والحقيقة أن ما جرى وأقدم عليه هؤلاء الأئمة الأفاضل، ليعد بمثابة ذلك “الهروب الكبير” المليء بما هو أكبر مما قد يتصوره البعض. وإن كان عددهم الذي لا يزيد عن (14) فردا، ليس بذلك الحجم الكبير، مقارنة بأعداد الهاربين موسميا وسنويا، وهم بعشرات الآلاف المؤلفة، ممن يتسربون بوتيرة منتظمة، من “جحيم” الوطن وقسوته للالتحاق بـ “الفردوس” الأوروبي ونعيمه الذي في البال والمخيال. غير أن نوعية أو فصيلة من كانوا وراء “الفرار الأخير”، تنطوي على رمزية ودلالات قصوى، هي أكبر من كل إثارة عابرة.
ولا غرابة إذا علمنا أن الرأي العام المغربي بات مستأنسا بأخبار وقصص ومغامرات “الحرَّاكة”، حتى أصبح الموضوع يندرج ضمن المسلمات والأحداث العادية. وها نحن نرى اليوم كيف أوشك “الحريك” أن يتحول إلى “رياضة” شائعة، تحظى بالانخراط التلقائي لجحافل بلا عد ولا حصر من شباب وأطفال (!) البلاد..
(بالمناسبة، تسمية “الحرَّاكة” (أصل الكاف “قاف” تنطق جيما مصرية)، لقب لكل المهاجرين غير الشرعيين المغاربيين والأفارقة. ويعود الاصطلاح الشعبي إلى إقدام المهاجر السري على حرق جميع الأوراق التي تثبث هويته حتى لا يتم طرده. ثم اجتهد بعض السوسيولوجيون المهتمون بالظاهرة، وفسروا مفهوم “الحراك” بكونه الشخص الذي يحرق كل المسافات ويهجر بلده متحديا السياسات البيروقراطية وحواجز التاشيرات، وقد أضيفت التسمية إلى القاموس اللغوي في اسبانيا وفرنسا).
ولا عجب إذا علمنا أن الأسر والأمهات والآباء، داخل الأوساط الشعبية الفقيرة، أصبحوا يتلقون التهاني من طرف الأهل والجيران، لما ينجح أحد أولادهم في امتحان “الحريك”. (لذلك كتب كثيرون في تعليقات الفيس بوك على خبر الأئمة الفارين، دعوات من قبيل: “الله يسهل عليهم”، متمنين لهم النجاح في ما أقدموا عليهم من مغامرة محفوفة بالمخاطر..!).
رياضة “الحريك”
بالموازاة، علقت بعض ألسنة السوء قائلة إنه “لو انتظمت كتائب المرشحين لعمليات “الحريك” ضمن جمعيات وأندية تحت لواء تنظيم مركزي، لغلبت فدراليتهم بقوتها الضاربة، وبحجمها العددي الكبير، وبامتدادها الشامل وحضورها اللافت، كل التنظيمات الفدرالية والروابط المعروفة، من نقابات ومركزيات عمالية مهنية وفدراليات رياضية، وفي مقدمتها “جامعة كرة القدم” برئيسها (فوزي لقجع) الأكثر شهرة بين جميع الوزراء وزعماء الأحزاب وقادة النقابات بلا استثناء…
وما دمنا بصدد ذكر الرياضة، يسترسل ذوو ألسنة السوء في القول، بأن “الحريك” بعد أن تحول إلى ممارسة متواصلة، جائز تصنيفها عن جدارة ضمن الممارسات الرياضية.. رياضة لو شاركت بها البلاد في الأولمبياد، لحصدت كل الميداليات وحازت كل الألقاب والبطولات.. بلا نزاع!
ولمن لا يدري، فإن عمليات “الحريك” تتم بواسطة عصابات مهربين وتجار بشر منظمين، عبر استعمال “الباتيرات” و”الزودياك”، أي “قوارب الموت”، التي تقوم بشحن ما يفوق حمولتها بالفارين، تحت ستر الليل وفي لجة الأمواج العاتية بالسواحل المغربية، سواء الشمالية منها على البحر المتوسط، (حيث لا تتعدى المسافة الفاصلة عن اسبانيا سوى 14 كيلومتر!.. “يا لمكر الصدف!، أليس هذا هو رقم أئمتنا المبجلين الفارين!”). أو عبر سواحل البلاد الجنوبية والمطلة على المحيط الأطلسي باتجاه جزر الكناري الاسبانية.
كما يلجأ “حراكة” آخرون، ممن تعوزهم القدرة على أداء المقابل المادي للمتاجرين بالبشر من أصحاب “قوارب الموت”، إلى أسلوب التسلل والاختباء وسط بواخر وسفن راسية بالموانيء، أو داخل شاحنات بضائع وحافلات نقل متجهة صوب أوروبا.
إلا أن كتيبة من “الحراكة”، تكونت من 20 شابا من الدار البيضاء، تفتقت أذهانهم عن ابتكار وسيلة جديدة في “الحريك”، اعتبرت نوعية وغير مسبوقة. ونظرا لطرافتها، لا بأس من استعادتها هنا:
- (خريف عام 2021)، في رحلة سياحية عادية، تصل ما بين مطاري الدار البيضاء واسطنبول، (لا تتطلب الحصول على تأشيرة سفر)، أرغم ركاب مغاربة الطائرة على الهبوط الاضطراري، بذريعة حالة استعجالية حرجة تتطلب نقل صديق لهم إلى المستشفى. وبعد الاستجابة لطلبهم، هبطت الطائرة في مطار جزيرة بالما دي مايوركا، هنا على الفور لاذ العشرون نفرا بالهرب والاختفاء، بمن فيهم مدعي المرض. نتج عن هذا تغيير مسار (14!) طائرة كانت متجهة ذلك اليوم من بالما دي مايوركا إلى مطارات أخرى. (لاحقا سيكتشف أن هؤلاء “العباقرة”، كانوا قد أفشوا خطتهم الهوليوودية مسبقا على صفحات حساباتهم في الفيسبوك).
قطران الاغتراب…
وبعدما كان الأمر مقتصرا على الشباب العاطلين، والخريجين المعطلين من ذوي الشهادات الجامعية، والساخطين المتمردين على واقعهم المرير، غير الراضين أو غير المقتنعين بما منحهم إياه حظهم العاثر، وبما رزقهم الرَّزَّاق الكريم، تحولت “رياضة لحريك” إلى أمنية وحلم يراود الخواطر والعقول اليائسة، ومبتغى وهدفا على أجندة أعداد كبيرة من الشباب المحبط واليائس، ذكورا وإناثًا، وقد كفروا بالمثل المغربي: “قطران بلادي ولا عسل البلدان”، بل عكسوه ليصبح “قطران البلدان أحلى وأفضل من مرارة عسل بلادي”.
وكمدخل نحو “بوابة الكرامة” وتحسين مستواهم المعيشي، لم يترددوا في اعتناق “اللجوع”، وهو مصطلح معروف بين المهاجرين غير الشرعيين، نحتوه من تغيير الحرف الأخير في لفظة “اللجوء” (الهمزة)، باستبداله عينا صريحة، ما دامت الهمزة المنفردة فوق السطر يشبه رسمها حرف العين.. والله المعين…
هكذا سيتكرر هروب بعض الموظفين المبعوثين إلى أوروبا في مهام وظيفية، (من القطاع العام أو الخاص). وبدافع الاستقرار المادي وتجنب العودة إلى المغرب، حدث هروب مجموعات من النساء المغربيات المتعاقدات بعقود موسمية للعمل في حقول الفراولة باسبانيا. أضف إلى هذا تسجيل حالات هروب أفراد من سلك الأمن والبوليس.
كما ستعاد قصص هروب رياضيين مغاربة، كانوا قد سافروا ضمن وفود وطنية لتمثيل الوطن وإعلاء رايته في سماء المحافل والمنتديات الرياضية الإقليمية والدولية، فإذا بهم يتبخرون في أرض الله الواسعة، وأغلبهم فعلوها بمجرد أن وطئت أقدامهم التراب الأوروبي، لينخرطوا في أولمبياد من نوع آخر، ميدالياته وجوائزه عبارة عن استقرار مضمون ولقمة عيش هنية.
المفارقة هنا، هي عندما امتدت شرارة “الحريك”، بعد اشتداد أوارها اللافح، لتمسك بعباءات وجلابيب فقهاء، المفترض فيهم الزهد والورع.
فقهاء!؟ أي نعم، لكنهم لا زالوا في غمرة الفتوة وعنفوان الشباب. وقد ساعدهم الحظ فألفوا أنفسهم ضمن بعثة الأئمة والمقرئين والمرشدين والوعاظ المؤثرين، أعضاء بعثة رسمية من وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، موفدة إلى أفراد الجالية المغربية الكريمة في المهجر الأوروبي، بمناسبة شهر الصيام.
لا شك، أنه قبل توجههم إلى مطار محمد الخامس بالدار البيضاء، جلس وفد أولئك الفقهاء، وكلهم آذان صاغية، أمام كبار وزارة الشؤون الإسلامية، ليتلقوا منهم آخر النصائح والوصايا والإرشادات قبل السفر، حتى تكتمل مهمتهم النبيلة على أحسن وجه وعلى ما يرام، ووفق ما تنص عليه التعليمات الواردة في “دليل الإمام والخطيب والواعظ”، الكتيب الصادر عن وزارة الشؤون الإسلامية. وليضمنوا “رسميتهم” في “المنتخب الوطني” للوعاظ، فيتكرر ابتعاثهم كل موسم وكل سنة.
ولا شك أن الفقهاء سمعوا أن عليهم أن يمثلوا بلدهم خير تمثيل، وأن يكونوا بمثابة سفراء للمغرب. هي الجملة ذاتها التي كانت تردد على مسامع العمال المصدرين لبناء أوروبا والعمل في مناجمها في العقود التي خلت…
لكن الذي حدث هو أن بعض هؤلاء “السفراء” هربوا بعد انتهاء مهمتهم الرسمية خلال شهر رمضان المبارك، وبعد أن أدوا واجب الإشراف على إقامة صلوات التراويح، وأموا بالمصلين من جالية المهاجرين المؤمنين، وألقوا فيهم خطبا عصماء في مجالس دينية خلال الشهر الفضيل، والغاية طبعا هي تنوير أفراد الجالية المغربية في ما يتصل بشؤون الدين، وأمور الدنيا أيضا، وفي مقدمتها المحافظة على “الروابط الأكيدة والوشائج المتينة التي تجمعهم كالعروة الوثقى بالوطن الغالي والحبيب”. هي الروابط والوشائج ذاتها التي بفضل محافظتهم عليها واستمرارهم في التشبث بها، يستمر تدفق شلال التحويلات المالية التي يواظبون على إرسالها بانتظام، فتتعزز بذلك ميزانية الدولة بالملايير من العملات الصعبة. تحويلات مالية لم تتراجع أرقامها ونسبتها، حتى في عز جائحة كورونا، مخالفة بذلك كل التوقعات المتشائمة.
غير أن الحياة الصعبة التي يعيشها كثير من الشباب، ممن لا يجدون فرصة عمل، قد تضطرهم ظروفهم القاسية إلى ممارسة أعمال بعيدة عما تعلموه ودرسوه ونالوا به شهادات التخرج، لذلك ستجد عددا غير قليل ممن انضموا إلى سلك الفقهاء والإمامة اضطرارا، بسبب انسداد الآفاق، بينما هم في الحقيقة قد يكون جلهم بمنأى عن الالتزام بشروط هذه الوظيفة الدينية ومتطلباتها… خصوصا إذا ما أدركنا أن مهمة (أو مهنة، أو وظيفة) هؤلاء الفقهاء لها صلة واضحة بما يصطلح عليه في الإعلام الرسمي المغربي بـ”الأمن الروحي” للمواطنين، وبـ”مؤسسة إمارة المؤمنين”.
لذلك، سيتكرر في السنوات الأخيرة، حدوث أكثر من وقفة احتجاجية، لمن يطلق عليهم اسم “القيمون الدينيون”.
ربيع الأئمة
في مشهد يشبه حضور أعضاء مجلس النواب باللباس التقليدي المغربي، عند افتتاح جلسات البرلمان التي يفتتحها عادة الملك كل سنة، فوجئ المارة والعابرون بشارع محمد الخامس في العاصمة الرباط، بتجمع كبير للأئمة، بجلابيبهم البيضاء وعلى رؤوسهم طاقيات الحج والطرابيش الحُمْر، حاملين اللافتات الاحتجاجية أمام مبنى المؤسسة التشريعية. ولم تكن شعاراتهم تختلف كثيرا عن شعارات الطلبة المعطلين، أو احتجاجات الأساتذة المتعاقدين، بل إنهم نهلوا من المعين نفسه، ورفعوا شعارات وهتافات تستنكر وضعهم الموصوف بـ “المزري”، مطالبين بتحسين وضعية “القيمين الدينيين” وتنظيم قطاع المساجد.
عقب تلك الوقفات الاحتجاجية للأئمة، بادرت السلطات إلى توقيف الإمام الذي كان يرأس “الرابطة الوطنية لأسرة المساجد”. وجرى استجواب آخرين مم شاركوا في الاحتجاج، وتم التهديد بعزلهم عن الإمامة، بل وصل الأمر إلى درجة توجيه اتهامات ثقيلة لبعض الأئمة، منها: “التخابر مع جهة أجنبية! ومحاولة زرع الفتنة في المغرب، ونقل عدوى احتجاجات (حركة 20 فبراير) إلى داخل كيان الأئمة”.
ويشار إلى أن نخبة من هؤلاء الأئمة كانت حاضرة في المظاهرات الاحتجاجية لـ (حركة 20 فبراير)، التي اندلعت في سياق انتفاضات “الربيع العربي” عام 2011، وكان منهم منتمون ومتعاطفون مع حركة “العدل والإحسان” الإسلامية شبه المحظورة.
وفي نفس الفترة، سبق لإمامين، (هما سعيد أبو علي: إمام المسجد المركزي بشيشاوة، وعلي حسو: إمام مسجد أولاد تايمة)، أن اشتركا في تأليف كتاب وطبعاه على نفقتهما، حمل عنوان “المساجد بالمغرب: رؤية من الداخل”، كله تشريح وانتقاد لأوضاع القيمين على المساجد. ووصف الكتاب الأئمة بكونهم “يعيشون على الكفاف ويعانون شظف العيش”، رغم أنهم يعدون “نوابا لأمير المؤمنين”، وحاملين لكتاب الله في صدورهم، ويؤمون الناس في الصلوات، إلا أنهم في أدنى السلم الاجتماعي وكرامتهم مهدورة بين الناس”.
وكان رد السلطات جاهزا وقويا، العنف والإهانة والضرب، واتخاذ جملة من قرارات الطرد التعسفي والتوقيف والعزل في حق عدد من الأئمة والمؤذنين. كما رفضت السلطات الترخيص لـ” رابطة القيمين الدينيين”. إلا أن مواقع التواصل الاجتماعي شكلت ملاذا ومتنفسا كبير للترويج لقضية الأئمة، فتناسلت مجموعة من الصفحات على سطح الفيسبوك، منها: “معا من أجل راتب يصون كرامة أئمة وفقهاء المساجد”، وصفحة “الحملة الوطنية للتضامن مع أئمة المملكة المغربية”، وصفحة “جمعية القيمين الدينيين”، وصفحة “أئمة مساجد الدولة المغربية”.
ولم تنجح محاولات وصول المحتجين إلى مبنى وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، كون مقر الوزارة يقع ضمن مساحة “المشور السعيد”، (أي القصر الملكي). لهذا أقدم الإمام سعيد أبو علي، على تنفيذ اعتصامه أمام الإقامة السكنية لوزير الأوقاف والشؤون الإسلامية، ما كلف الإمام التوقيف والاعتقال والمحاكمة، ومن التهم التي وجهت إليه “تحريض الأئمة على مزاولة العمل النقابي، ودفعهم إلى الإخلال بالتزاماتهم”. وصدر في حقه حكم بفصله وإنهاء مهمة تكليفه بالإمامة، مع السجن سنتين نافذتين.
لا تنتهي أخبار وقصص “حراك” القيمين الدينيين، إذا أردنا استحضارها ومتابعتها وسرد تفاصيلها ولو باختصار. لكن الإشارة تدعو إلى ذكر تداعيات ما حصل بهذا الصدد، إذ نظرا لتشابه الأوضاع والمشاكل الخاصة بهذا القطاع في البلدان المغاربية، فقد انتقل “حراك الأئمة” إلى الجزائر وتونس، ليتكرر المشهد ذاته، وتقريبا بنفس المطالب والهتافات والشعارات.
من الحراك إلى “الحريك”
إلا أن جماعة “الأئمة الأربعة عشر”، (كما لو كنا نتحدث عن “الأئمة الاثني عشر” في مذهب الشيعة)، أعادت موضوع القيمين الدينيين و”حراس الأمن الروحي” إلى الواجهة ليطفو بقوة على السطح، بعد أن اتخذت ثلة منهم قرارها الجماعي، متجاوزين “الحراك” السلمي، الذي لم يؤت بنتائج، إلى مغامرة “الحريك” اللاقانوني، أي المكوث في أوروبا بطريقة غير شرعية، والتخلي عن فكرة العودة إلى الوطن بعد انتهاء مهمتهم الرسمية، التي يتقاضون بموجبها ثلاثة ألف درهما (ما يقارب 300 دولار) شهريا.
لا مجال هنا لمزيد من السخرية القاتمة، مثل البحث عن الفتوى التي استند إليها “الفقهاء الهاربون”، وهل لجؤوا إلى الاقتباس من الهجرة النبوية وبحثوا في أسانيدها الشرعية (وهم الآن في نظر القانون “لا شرعيين!)، ومنها الحديث الذي يعد من الأحاديث المروية الصحيحة: “إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها، فهجرته إلى ما هاجر إليه”.
فتاوى فقهاء اليوتيوبر
لم يتأخر فقهاء اليوتيوب في الإدلاء بفتاويهم الجاهزة، واعتبر أحدهم أن الأئمة الأربعة عشر “ارتكبوا ما يخالف الشرع والسنة”، وقال بأن “الإسلام ينهي عن السفر والإقامة في بلاد الكفر، لأنها ذريعة إلى الفساد، ودعوة إلى الافتنان بالشهوات والفواحش”.
ولحسن الحظ أن مفتي اليوتيوب لم يفته ما وقع فيه من مغالطة وتغليط، فاستدرك قائلا: “… وقد يباح للضرورة أو الحاجة” .
ولولا هذا الاستدراك لجرى اعتبار كل الجاليات المغتربة من الكفرة المارقين، لأن الاضطرار والحاجة والضرورة التي دفعت “الحراكة”، وضمنهم هؤلاء الأئمة الأفاضل، هي الضرورة ذاتها التي أدت بأفراد الجالية المنتشرة في أرجاء العالم، لترك الوطن والتخلي عن أرض الإسلام، والانتقال للعيش بين ظهران الكفار والمشركين وأعداء الدين!
ساعتها، لن يكون أي حرج إذا ما استبدل اسم وزارة “الجالية المغربية المقيمة في الخارج” باسم “وزارة “الحراكة” الفارين إلى الخارج”.
إسلاموفوبيا.. وقطط وأعراس!
لكن، ماذا بإمكان هؤلاء المهاجرين “غير الشرعيين” من “الأئمة الأربعة عشر”، أن يمارسوه من عمل مشروع في ديار الاغتراب، هذا إذا ما وفقهم الله في تسوية إقاماتهم القانونية، وهو ليس بالأمر السهل والهين، في زمن تشتد فيه العنصرية ويصعد فيه اليمين المتطرف، وتسود الإسلاموفوبيا لأعلى درجاتها ومستوياتها ببلدان أوروبا؟
على الأرجح، أن منهم من سيبحث عن مسجد يبحث عن توظيف إمام تتوفر فيه شروط الإمامة. لكن الشاطر فيهم هو من سيفتش عن أي عمل يضمن العيش والكرامة تحت سماء الله وفي أرضه الواسعة، بعد أن ضاق العيش وعزت الكرامة داخل الوطن. فقديما قال أحد الحكماء إن “الوطن حيث تشعر بالأمان وبالعدل.. والوطن حيث تجد كرامتك، والوطن حيث تكسب قوت يومك، وأرض الله الواسعة كلها وطنك..”.
وليس بالمستبعد أن يستسلم بعض الأفراد من فريق الأئمة الهاربين، ليقرر عندها العودة إلى الديار متوجا بالخيبة والعطالة، بعد العجز عن مواجهة مصاعب ومخاطر الهجرة السرية، فالمهاجر سري عنصر مشبوه ومطارد، فكيف به إذا لم يأت مستعدا لاستغلاله في أقسى الأعمال والمهن الصعبة بشكل غير قانوني يشبه وضعيته، بل إن شبهته ستكون أكبر، هو من وصل متسللا لينشر تعاليم وفتاوى دين الإسلام خارج أرض الإسلام، ولو بين الجاليات المؤمنة المسلمة. إذ لم يعد أمرا خفيا في العقود الأخيرة، كيف يربط أصحاب القرار في الغرب بين الإسلام والتشدد الديني والإرهاب، وقد تم ضبط بعض المساجد في أوروبا عملت على “تحويل الشباب العادي إلى أفراد مستعدين لقتل الأبرياء”، وأن أغلب الشباب المغاربي الملتحقين بتنظيم “داعش” هم من أبناء الجاليات بالمهجر الأوروبي.
ضمن هذا الإطار يجري تسليط الضوء على ما يطلق عليه في الغرب: “الإرهاب المحلي” في أوروبا، وبروز مفاهيم وتنظيرات حول “المنفى وتطرف الشتات”.
من هذا المنظور تشتغل مراكز الأبحاث الغربية على “الأمن الروحي” المضاد، أو المختلف عن “الأمن الروحي” المصدر إليها من البلدان الأصلية للمهاجرين. وتسعى الحكومات الغربية إلى ما يضمن سهولة اندماج المهاجرين وأبنائهم في المجتمع المضيف، عوض أن يشكلوا خطرا أمنيا وقنابل موقوتة.
وتلك قصة أخرى، وإن كانت غير بعيدة عن فرار “الأئمة الأربعة عشر”…
لنعد إلى الموضوع الذي نحن بصدده، ألا يذكرنا فرار وهروب مواطنين من أوطانهم، بما كان يحدث لعقود طويلة في بلدان المعسكر الشرقي، زمن الأنظمة الاشتراكية التابعة للاتحاد السوفياتي وحلف وارسو؟
ها نحن اليوم نتابع تواصل واستمرار عمليات الهروب من الجهات الأخرى لأرض الله التي تضيق، وتضيق أكثر حد الاختناق، فلم تعد تتسع للجميع.
هروب الناس من بلدان الجنوب نحو دول الغرب، هروب يبرره البعض بأنه مشروع، “ما دام الغرب الاستعماري قد استعمرنا وتسبب في تجهيل أجيالنا ونهب وينهب خيراتنا، فلا بد أن ننغص عليه ونلحق بخيراتنا حيث يتم تهريبها”…
هناك مثل عامي شائع في المغرب، مضمونه بالفصحى، أنه “ليس هناك أي قط يهرب من دار العرس”، ما يفيد أن من يستفيدون ويعيشون الرفاه في الوطن هم القطط السمان، أما الباقون ففئران جائعة.. (لنتذكر الصرخة الأخيرة للكولونيل القدافي)..
لكن إلى أين المفر؟ البحر من أمامكم والقهر من خلفكم يا ابن زياد.. يا طارق… وقد انتهى زمن الفتوحات، والحدود كلها موصدة ومغلقة، ولا أمل ولا مجال سوى الهرب والفرار من الردى إلى… الردى!
هكذا يتحول البحر المتوسط إلى مقبرة عائمة تغض بمئات الآلاف من ضحايا “قوارب الموت”.