أخباركم ــــ أخبارنا
بعيون حزينة وقلق واضح يتجلى في حركاتها وهي تحاول أن تنصت إلى الخارج لتستكشف ما إذا كان ما سمعته صوت مسيرة في السماء، متسائلة من سيكون ضحيتها المقبل، شاب يعتلي “موتوسيكل” أم سائق سيارة أم سيارة إسعاف أم باص مدرسة للاطفال، وهي التي تخلت عن فكرة ارسال ولديها في “الأوتوكار” وفضلت إيصالهم بنفسها إلى مدرستهم، فإن باغتهم الموت يكونون سوية، بينما تشق هي طريقها نحو المستشفى القريب مما كان يسمى سابقا “الشريط الحدودي” الذي تعمل به، هو المستشفى الذي لم تتركه لأنه مصدر العيش ولا يمكن للمرء أن يغامر بترك مصدر عيشه، الى أين يذهب؟!
بتوجس ترد على استيضاحنا عن واقع الحال في القرى الجنوبية التي تتعرض يوميا للقصف وقد خلت بعض القرى منها من سكانها الا ممن لا حيلة لهم، فلا هناك قريب مغترب يؤمن له شقة في بيروت او غيرها ولا من ابن او ابنة يعمل ويقبض راتبه بالدولار، تقول الطبيبة التي تفضل عدم ذكر إسمها، فلا احد يعلم ما يمكن ان تتهم به إن أفصحت عما بداخلها من أسئلة مؤرقة: “الأصعب ما في الأمر هو الإنتظار، ننتظر حتى تفرج الاوضاع وتتحسن الأمور، فالحرب طالت وهي مستمرة منذ شهور، وما اعتبرناها حالة مؤقتة صارت دائمة ومزعجة، العمل في العيادة خفيف ، مثلا اليوم قصف مستشفى صلاح غندور في بلدة بنت جبيل وقتل شابا من بلدتنا المجاورة كان يجري فحصا هناك لابنه، اعرف هذا الشاب البرىء الضحية، مجازر ترتكب بحق الناس العاديين والأطفال نتيجة استهدافهم وهؤلاء لا علاقة لهم بمن يخوض هذه الحرب باسمهم في حولا والخيام وعيترون وعيتا الشعب الارض تتحول إلى أرض محروقة”.
ينشغل سكان الجنوب والبقاع الغربي في القرى الحدودية بالسؤال من يعوض الخسائر التي تقع نتيجة ما سمي “حرب المشاغلة”، فبينما تصريحات رجال السياسة والمسؤولين تطالب الدولة بالتعويض، لا يبدو أن هناك شىء يطبق على الأرض، “هناك وعود بالدفع كما يشاع، ولكن متى لا احد يجيب، احد زملائي طبيب من بلدة بليدا منزله دمر بالكامل، لم يتصل به احد ولا اي جهة رسمية لا مجلس الجنوب او غيره لم تأت جهة لتسجل الاضرار من يسجلها ومن يرصد الخسائر من هو المسموح له بذلك وهل يشمل الجميع وهل الدولة ومؤسساتها مسموح لها بالتدخل؟ هذا االطبيب لم يتلق وعدا بالتعويض من احد ولا اعرف من يقبض تعويضات إن وجدت”.
تتخوف الطبيبة من استمرار الحرب والتوعد بحرب كبيرة تدمر كل شىء وتتوسع لتشمل الجنوب او لبنان بكامله وحتى المنطقة كلها، وبينما كنا نتحدث ينقطع صوتها ونسمع صوت الطيران .. “غارة”.
ما هو شعورك؟ تجيب بآه طويلة “طالما أنا بالبيت أشعر بطمأنينة ناتجة عن منطق يقول انني شخصيا لست مستهدفة، فالضربة لن تكون موجهة لي إلا إن أصبت بالخطأ، ولكن عندما أكون بالخارج اشعر برعب اثناء تنقلي، لا يمكن توقع ما قد يحصل؟ صديقاتي النساء قلن لي عندما ترين موتوسيكل او رابيد لا تسيري بالقرب منها، توقفي حتى تصبح بعيدة عنك، ليست نكتة بل حقيقة، وعندما أذهب الى بيروت لارى ابني الذي يدرس في جامعته هناك اعيش حالة توتر، فهو يقلق علي وانا اتوتر من اتصالاته ليسال عما إذا اصبحت في منطقة غير مستهدفة وأكثر أمانا”.
تحاول الطبيبة عدم الاستماع إلى نشرات الأخبار لان الاعلام المتواصل يوترها، وغالبا ما تسمع عن حدث ما بواسطة إبنها الذي يتابع ويقلق فيتصل ليطمئن، بينما يظهر له ان امه غير مبالية بما يحدث حولها ولا بد من تنبيهها بشكل دائم إلى ما يحدث من تطورات.
“معظم سكان البلدة نزحوا منذ اسبوعين”، موضحة “سمعت أنهم بدأوا يدفعون ايجار منازل للنازحين، قبل ذلك كانت البلدية تعمل على تأمين منازل البلدية لنازحين من القرى الحدودية الذين لجأوا لبلدتنا كونها ابعد قليلا، والان بدؤوا يدفعون ثمن ايجارها، ويقولون ان حزب الله أمن ذلك، وهو يوزع أيضا عليهم مواد تموينية”.
وتختم “كما يبدو أن حالة الانتظار ستكون طويلة”.
من يتجرأ على التجوال في قرى الجنوب اللبناني يدرك خطورة مغامرته، فالدراجات النارية مستهدفة والسيارات مستهدفة مما يجعل الحركة شبه معدومة، حتى ان وسائل الاعلام العالمية وصفتها القرى “بمدن اشباح”،
وبيوت سويت بالارض وحقول ومزارع احرقت.
والحياة داخل القرى ليست كما في السابق، فلا زيارات وحتى في العزاء يكتفي كثيرون بالتعزية على الهاتف حتى لا يعرضوا انفسهم للخطر في التنقل، سيدات المنازل حصرن خروجهن بشراء مستلزمات البيت من محيطهم، فقط مشوارهم يكون عند بائع الخضار او اللحم.
الاضرار كبيرة، اكثر من مئة الف مهجر، منذ اندلاع حرب المشاغلة بين اسرائيل وحزب الله اثر عملية طوفان الاقصى التي قامت بها حماس واختار الحزب بداية دعمها باشغال الجيش الاسرائيلي في الجبهة الشمالية، عبر اطلاق الصواريخ والمسيرات، وردت اسرائيل باغتيالات وتدمير بنيته واعتداءات بالقصف والغارات التي لم يسلم منها المدنيون، بالقرب من الحدود، الا ان هذه الحرب توسعت ولم يعد يسري عليها تعبير “قواعد الاشتباك”، علما ان خسائر الحزب البشرية فاقت عدد خسائره التي أصابته في حرب العام 2006، فكل يوم يتم نعي ما بين شهيدين او اربع شهداء على اقل تقدير، وقد قارب عددهم اليوم حوالي الثلاثمائة، أما اعداد الجرحى فهي أيضا في تصاعد ملفت.
النازحون من الجنوب يعيشون معاناة على الرغم من المساعدات التي يتلقاها بعضهم، يقول لنا “حسين”: “جميع النازحين باستثناء أهالي المغتربين يعانون اليوم، فمن كان يدَّخر جزءا من المال صرفه خلال أشهر النزوح الاولى، خصوصا أن “حزب الله” لم يبادر لتأمين بيوت للنازحين في الفترة الأولى، ولكن منذ حوالي الثلاث شهور وعندما اشتدت النقمة بدأ الحزب بدفع بدلات ايجار تتراوح بين ٢٠٠ و ٨٠٠ دولار مع توزيع حصص غذائية ومعونة مادية تتراوح بين ١٠٠ و ٤٠٠ دولار للعائلة، هذا ما جعل الناس تعض على جراحها خوفا من قطع هذه الإعانات”.
في منطقة صور، بحسب ما يتردد أوكل الحزب مهمة الإهتمام بأمور النازحين لـ “حركة أمل”، يشرح حسين أن الحركة “سعت مع عدد من الجمعيات المهتمة بمعالجة حالات الفقر بتأمين معونات للنازحين في مدارس صور وللموجودين ضمن نطاق اتحاد بلديات صور ما خفف النقمة على الحزب باعتباره ليس في صورة تأمين طلبات المحتاجين ماديا ومعيشيا.
أما معنويا، فإن مسؤولي الحزب حسب حسين يجولون على أهالي الشهداء، ويواسونهم بأن ابنهم في حضن “الزهراء”، و”الزهراء” افضل منا جميعا ومع هذا الإسلوب لا يستطيع أهالي القتلى انتقاده”.
ويلفت إلى أن “النازحين كما كل اللبنانيين الفقراء يعانون طبياً و دراسياً، حيث لا علاج الا للحالات الطارئة وابنائهم يداومون في بعض المدارس الرسمية بشكل صوري كما أن المسجلين في الجامعة اللبنانية غالبيتهم تخلفوا عن المتابعة بسبب كلفة النقل عليهم”.
وبرأيه أن” الغالبية العظمى من النازحين وأهالي الجنوب يرددون وبشكل علني وصريح وواضح أن هذه الحرب من دون أفق ولا ناقة لنا فيها ولا جمل والمقاومة هدفها الدفاع عن لبنان أما الفناء والدمار من أجل غزة أمر غير منطقي ولا يجوز، فحتى بكل جلسات قادة حزب الله مع الناس يحاولون تبرير فتح جبهة الجنوب والناس لن تقتنع”.
بالنسبة له فإن أهالي الجنوب لا يسألون عن وجود الدولة لأن حزب الله غيَّبها من أذهانهم ووجود الدولة يعني ضعف دور الحزب، لذا لا نسمع اصوات تطالب الدولة من الأهالي، فقط مسؤولي الحزب يسألون عن الدولة ليحاولوا أن يرموا شيئاً من أحمالهم ويضعونها على أكتاف الدولة غير الموجودة “.
وعن ثقة الناس بـ “المقاومة” يجيب: ” كل يوم تتخلخل وتضعف وخصوصا مع كل عملية اغتيال تقتل فيها إسرائيل مقاتل من حزب الله اينما وجد مما عكس ضعف الثقة بهذا الحزب الذي صوَّر ذاته للجنوبيين وللشيعة بأنه لا يقهر، اكثر من ذلك أن الجنوبيين عندما يلتقوا في الطريق بآلية للهيئة الصحية مثلا يبتعدون عنها خوفا من قصفها لقناعتهم بأن إسرائيل ترصد عناصر وآليات حزب الله، وعدد من الأهالي يزور البلدات التي تقصف باستمرار” متأكدا أنه ليس هدفا كونه ليس عنصرا في حزب الله”.
يصف الناشط السياسي أحمد إسماعيل هذه الحرب بالقول: “لا تشبه كل الحروب السابقة على الجنوب، فمنذ حرب ١٩٧٨ التي لم يتشرد نتيجها اهل الشريط الحدوي من بلداتهم وقراهم بهذا الشكل وبهذا الكم من الناس، ايضا لم يكن في وقتها ازمة معيشية مستفحلة ومالية واجتماعية قاتمة، اليوم تقريبا جميع الأبواب مغلقة بوجه طموحاتهم وآمالهم في فتح نوافذ للخروج من وطأة هذه الأزمة، وفي نفس الوقت لا خيارات لديهم في ظل انهيار الدولة ومؤسساتها وغياب اي مشروع بديل يطرحه الآخرون، لهذا يبقى المهجر والنازح من هذه القرى مرغما محتاجا لحزب الله وللأمر الواقع حتى لو كان رافضا لمنطق الحرب التي جرتها كرة طوفان الأقصى في غزة، والتي كانت في حساباتها بالبداية عند الحزب اسابيع قليلة وتنتهي، لكن المتوقع لم يحصل وتحولت حرب غزة الى حرب استنزاف داخليا وبشكل كبير واستنزاف اهل الشريط خاصة والجنوب عامة”.
ويؤكد “الناس المهجرة همها قوت يومها التي تسترزقها من الأعاشات الكرتونية واضطرار الحزب تأمين السكن وبدل الأيجار والطبابة التي زادت اعبائها وتكاليفها، وكل ذلك خوفا من تذمرات وتصريحات من النازحين وخلق زعزعة وبلبلة داخل البيئة التي تتملل وترفع صوتها داخليا وهي غير مرئية في الاعلام، لكن الغضب والحزن موجودين ورفض هذه الحرب “المشاغلة” لاسناد غزة، شغلت بال الجنوبيين لكنها عطلت اعمالهم خاصة واحرقت محاصيلهم الزراعية ودمرت بيوتهم ودفعتهم اثمانا من الضحايا “.
ويتابع: “كما أن هذه الحرب لم تمر على اهل قرى الشريط من قبل، خاصة ما بعد التحرير، وبتاريخ كل الحروب لم يتهجروا بنسبة مئة بالمئة ولم يتعرضوا لهذا الدمار الكبير حتى اثناء الأحتلال الذي استمر ٢٣ سنة لقراهم، اما اليوم وهو محرر وشهد اعمار كبير ما بعد الألفين، عاد وتهدم وكأن التحرير لم يكن”.
وبرأيه أن لسان حال الجنوبيين من الحرب متنوع “هناك من هو صامت ومن هو داعم ومن هو رافض، لكن الجميع يعيش حالة القلق والخوف والذعر على مستقبل مجهول من فكرة حرب كبيرة تحصد ما تبقى من آمال وتؤهلهم للعودة من جديد الى حد ادنى من حياة”.
في منطقة النبطية يشير “ابو مازن” من بلدة يحمر الواقعة قرب قلعة الشقيف، ان الاعتداءات لم تطال بلدته مباشرة بالقصف المدفعي ولكن سقط شهيد منها، حصلت غارات استهدفت اشخاص بالمسيرات، ومعظم قرى النبطية اليوم تستضيف نازحين من القرى الحدودية التي تتعرض لاعتداءات مباشرة، ليس هناك حركة نزوح أو هجرة كبيرة حتى الآن كما هو حاصل في بلدات الحدود على الرغم من الخوف والحذر من تطورات الوضع الأمني، اجمالا لم تتعطل المدارس حتى الآن وتفتح بشكل شبه اعتيادي وكذلك المزارعين يتابعون أعمالهم لكن بحذر، وأما الحالة الاجتماعية والاقتصادية للناس فقد تأثرت بالوضع بكل تأكيد ولكن معظم المؤسسات التجارية لا زالت تعمل اعتيادياً في قضاء النبطية ، لكن في حال تطورت الحالة الأمنية وامتدت واتسعت الاعتداءات الإسرائيلية سينعكس ذلك سلباً على مجمل الأوضاع والقطاعات”.
اما بالنسبة الى منطقة العرقوب، فتقول لنا رولا من بلدة كفرشوبا أن ” هناك دمار كبير في البلدة وقتل اربعة عناصر 3 من حزب الله وواحد من حركة امل، آراء اهالي البلدة ليست واحدة، هناك انقسام في المواقف مما يجري، الاقليه من مؤيدي لحزاب والحركة والجماعة الاسلامية وهؤلاء متحكمين بقرار الأكثرية”.
التضامن مع فلسطين موجود، تستدرك رولا وتضيف: “لكن هناك أغلبية ضد الحرب، الناس لا تشعر بالأمان خصوصا مع انتشار مسلحي “السرايا” من السنة الذين يذهبون فرق عملة في مغامرات حزب الله الحربية، علما ان هناك عملاء تسببوا في قتل اشخاص وتدمير منازلهم من مؤيدي الحزب لكنهم ليسوا مقاتلين”.
وعن الاهالي، تشير رولا إلى ان معظم اهالي بلدات المنطقة “هربوا إلى بيروت وصيدا وهناك من لجأ الى المزرعة في حلتا”.
التصعيد يزداد في الجنوب، الخوف من فتح الجبهة والتهاب نار حرب تبقي ولا تذر، فاسرائيل تواصل رفع جاهزيتها للحرب على لبنان، وقد أجرت قوات من جيشها الكثير التديبات والمناورات في سيناريوهات قتالية على الجبهة الشمالية، فيما حزب الله يتوعدها بمفاجآت، بينما الأهالي يتمنون ان يكون يعلم هذه المرة وهم يدفعون ثمن المغامرات القاتلة للأوطان.