كتب السياسي اللبناني حسين قاسم لأخباركم – أخبارنا
قال مؤسس الاتحاد السوفياتي والتجربة الاشتراكية الأولى في العالم، فلاديمير لينين: “تنبغي محاربة الجملة الثورية، تنبغي المحاربة، تنبغي المحاربة حتماً، لكي لا يقولوا عنا ذات يوم الحقيقة المُرَّة: أن الجملة الثورية بصدد الحرب الثورية قد أهلكت الثورة”.
في بداية القرن الحالي، استقبلناه سوياً، الرفيق مالك موسى وآخرون، في مطار العاصمة الألمانية برلين واتجهنا به إلى مدينة دريسدن، بعد عبورنا حائط برلين المنهار منذ عقد من الزمن باتجاه الشرق الألماني حيث كانت ألمانيا الشرقية واجهة الاتحاد السوفياتي وحلف وارسو نحو الغرب. سرد لنا الشهيد الكبير جورج حاوي تفاصيل مشاركته في أحد مؤتمرات الحزب الاشتراكي الألماني الموحد كمندوب للحزب الشيوعي اللبناني، متوقفاً عند تداعيات مضمون كلمته. ظن أبو أنيس أن مهمة توحيد ألمانيا هي القضية الجوهرية للشيوعيين الألمان، فركز عليها باعتبارها الأولوية الوطنية للشعب الألماني، ولو اقتضى تحقيقها بعض التنازلات. ولم يكترث للوجوه الناشفة التي واجهته بعد انتهائه من إلقائها والتي استمرت بالنشفان طيلة فترة المؤتمر. حتى عاد إلى بيروت ليجد الاحتجاج أمامه عند القيادة الحزبية من المرجعية البكداشية للأحزاب الشيوعية العربية، حيث وصل الاعتراض السوفياتي لخالد بكداش الأمين العام للحزب الشيوعي السوري عن تعرض جورج حاوي لأمور لا علاقة للشيوعيين العرب بها، مرفقاً بتنبيه للرفيق نقولا الشاوي الأمين العام للحزب الشيوعي اللبناني حينها بأنه لا داعي لإرسال أحد من جيل الشباب إلى هكذا مناسبات مع ضرورة الاطلاع المسبق على الكلمات.
استمر جورج حاوي على نهجه المشاكس للمواقف الرسمية للقيادات الشيوعية العربية المتعاقبة، وهو الذي ردد على الدوام: “أن تكون أممياً أكثر عليك أن تكون قومياً عربياً أكثر، وأن تكون قومياً عربياً أكثر عليك أن تكون وطنياً لبنانياً أكثر”. واستمر بالمشاكسة إلى أن اعتبر أن تبني الحزب للقضية الفلسطينية ليس موقفاً قومياً عربياً فحسب، وإنما هو موقف وطني لبناني بالصميم. وصولاً إلى طرح الشعار الذي ردده الآلاف من الشيوعيين عن البديل الثوري لحركة التحرر الوطني العربية، والذي كان يثير الريبة من القيادات اليسارية الرسمية العربية. والهم الأبرز كان على الدوام هو اكتشاف جوهر القضية الوطنية والتي كانت تتمثل دائماً في مواجهة المحتل، والتحرر الوطني، والوحدة الوطنية، والاستقلال الوطني. تلك الشعارات ميزت نضال الشيوعيين اللبنانيين بقيادته لعقود من النضال على مختلف الأصعدة، مما ساعد في بناء حركة وطنية نسيجاً لمختلف الشرائح التواقة لتحقيق التغيير الوطني الديمقراطي في لبنان، وصولاً لصياغة البرنامج المرحلي للإصلاح السياسي في لبنان بقيادة الشهيد المعلم كمال جنبلاط.
بيد أن مشاكسته بلغت ذروتها عندما اختار السير مع حليفه كمال جنبلاط في التصدي لدخول قوات النظام السوري إلى لبنان في العام 1976، بينما كان كوسيغن رئيس وزراء الاتحاد السوفياتي في العاصمة السورية دمشق. والموقف ذاته تكرر عندما اعتبرت القيادة السوفياتية أن إطلاق جبهة لمقاومة المحتل الإسرائيلي في العام 1982 عملاً مغامراً، فكان جوابه أن تحرير الأرض هو واجب وطني قبل أي شيء آخر. تلك المواقف تكررت تباعاً في مراحل حرجة في تاريخ البلاد، فهو الذي رفض تلبية طلب النظام السوري الاشتراك في حرب المخيمات الفلسطينية في لبنان رغم إغداقه للوعود الجمة، فرفضها بشراسة ليتلقى الحزب وكوادره حملة شرسة لا مثيل لها، ولم يمنعه ذلك من استمرار العمل المقاوم ضد الاحتلال الإسرائيلي بشراسة أكبر.
وأضاف على المسيرة الوطنية بعداً وطنياً مهماً في طرح مبادرته للمصالحة الوطنية عشية إقرار وثيقة الوفاق الوطني في الطائف لإنهاء الحرب الأهلية التي عصفت في لبنان، وكأنه تذكر في حينها ما طرحه في مؤتمر الحزب الاشتراكي الموحد في برلين في منتصف ستينات القرن المنصرم.
وهو المطلق والقائد لجبهة المقاومة الوطنية اللبنانية (جمول)، وبالجرأة ذاتها أعلن في حزيران من العام 2000، بعد اندحار العدو عن أرض لبنان، أن لبنان المحرر من الأحتلال للإسرائيلي، لم يعد ساحة بل صار وطناً. وعلى الجيش السوري الانسحاب وفقاً لاتفاق الطائف، وعلى الجيش اللبناني الدخول والانتشار في الجنوب، وعلى القوى السياسية المختلفة العمل على بناء الوطن المحرر مع كل ما تقتضيه من موجبات على الجميع.
وكي لا تتسبب الجملة الثورية في هلاك الثورة، شحن فكره بحصافة الرأي، ولم يأبه لمصير “القميص الشحماني” وصف كمال جنبلاط للجسد، ولم يأبه لعابري الأفكار، والماضي بالنسبة له هو أمصال للمستقبل، يعتقد ان صناعة التاريخ تحتاج الى قرارات صعبة.
ومضى مشاكساً من الطراز الرفيع، ادرك اخطائه فانتقدها.
فقتلته مشاكساته الوطنية.