كتبت فاطمة حوحو لـ”أخباركم – أخبارنا”
تثير مواقف إلياس جرادي، النائب التغييري السابق والوسطي الحالي، والذي يدعوه كثيرون ممن خاب ظنهم من اليساريين الى الانضمام لكتلة “حزب الله” (الوفاء للمقاومة)، البلبلة في صفوف ناخبيه الذين شهدوا على مواقفه المعلنة، مشدوهين من قراءاته السياسية الداعمة للحرب الحالية في الجنوب، وليس هذا فقط بل من محاولته وضع المشكلة عند الدولة التي سيطرت على قرارات الحرب والسلم فيها ميليشيا مسلحة تتحرك وفقاً لأوامر خارجية، وبدعوته الى توضيح موقفها وعدم التخلي عن الجنوب كما حصل بعد اتفاق القاهرة. لكن، برأيه “من غير المعقول أن نعرف الموقف اللبناني من تصريحات العدو”، مشيراً إلى إنه طلب من قائد الجيش أن “يتوجه الجيش جنوباً ولنجعلها حرب لبنان ضد العدو، وسأكون أنا على أول آلية للجيش”…
كل هذه الحماسة في المواقف تصيب المراهنين من التغييريين بالخيبة. فهذا الشيوعي المعتقل السابق في سجون الاحتلال الاسرائيلي الذي لم يتردد عن المشاركة في مؤتمر للعيون تحت رعاية “سيادة الرئيس بشار الأسد” قاتل شعبه ومشرده وجالب الاحتلالات الى وطنه في وقت سابق، حيث كانت مشاركته محط استهجان وانتقاد. الا إنه برر ذلك بكونه طبيباً اعتاد المشاركة في هذه المؤتمرات السنوية، وهذا العذر لا يُقنع طفلاً صغيراً، فكيف برجل سياسة من المفترض به تمثيل إتجاهات ناخبيه وليس القفز فوق ارادتهم بالتغيير، عبر مواقف تمثل الطبقة الحاكمة وأحزابها التي أسقطت الشعب في لجّة الجحيم.
ولإثبات حسن نواياه مع الحليف، التيار الوطني الحر، قدم مشروع قانون لطرد السوريين من لبنان، بسرعة البرق وفي ترحيل جماعي كيفما اتفق، إن بتوطينهم جماعياً في بلد ثالث، أو بفرزهم بين موالين للنظام يعودون إلى حضنه، أو معارضين يذهبون إلى مناطق الشمال، مبرراً ذلك بأن مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين والبرلمان الأوروبي لم يفيا بـ”وعودهما”؟ وقد فاجأ الجميع بهذا الموقف العنصري من السوريين، وهو موقف لا يمكن ان يكون يسارياً بل يمينياً بإمتياز، لكن كان عليه إداء الفاتورة كما يبدو واضحاً.
اليوم يدعم إلياس جرادي “حزب الله” في حرب المشاغلة تحت عنوان إسناد غزة، وما يعني ذلك من دمار وابقاء لبنان ساحة صراع اقليمي لحساب ايران. وهو كان قد تقدم بإقتراح قانون يرمي إلى إعفاء المكلفين في محافظتي الجنوب والنبطية من الرسوم والضرائب المالية والبلدية ومن اشتراكات الصندوق الوطني للضمان الإجتماعي؟ أي على اللبنانيين دفع ضريبة الحرب من جيوبهم كرمى لمن ولحساب مَن، ولماذا عليهم تحمّل خسارات من هذا النوع وهم الذين خسروا في الحروب المتعاقبة ارواح وممتلكات واموال، ومعظمهم يعيش اليوم وفق مقولة “على الارض يا حكم”.
واللافت ان جرادي لم يخرج من عباءة الحزب الشيوعي وموقفه، كذلك من مواقف “حزب الله” و”حماس”، اي التنظيمين الدينيين اللذين يخوضان معركة دينية في وجه اليهودية، بينما هو الشيوعي واليساري من المفترض أن يكون ضد مشاريعهما السياسية وما يكتبانه لمستقبل البلاد؟ فكيف يحصل هذا التلاقي بين الشيوعية وثنائي الشيعية او الاخوانية، وهل تعتبر الشيعية والاخوانية اليوم ممثلين عن اليسار؟ وماذا عن ادعاء العلمانية والمطالبة بدولة مدينة والتعددية والحفاظ على الحريات؟ وماذا عن المؤسسات المعتدى عليها والمصادرة بواقع السلاح الميليشياوي؟ وهل الحل بإعادة عقارب الساعة إلى الوراء وفتح الساحات للفوضى المسلحة على أرض لبنان سواء بفتح جبهة الجنوب للحرب مع اسرائيل من قبل ميليشيات ايران ومحور الممانعة و”الجهاد”، والتهديد بالعودة إلى الحرب الأهلية؟ لربما يجد “الحزن الشيوعي” باباً لعمل جنرالاته المتقاعدين سواء في العسكر أو السياسة، خصوصاً وانه يخاف اليوم من التحدي ولا يملك شجاعة الفكر أو القول، بل يكتفي بتبعيته لهذا المحور علناً أو سراً بحسب اتجاه الرياح.
خلَف الياس جرادي النائب اسعد حردان في انتخابات 2022 في دائرة الجنوب الثالثة، ليسجل في حينه لقوى ثورة 19 تشرين إنتصاراً بهذا الخرق الذي تلاقى في انجازه يساريون وشيوعيون سابقون حاليون وأحزاب من قوى مسيحية حليفة. واللافت أنه منذ أن اصبح عضواً في البرلمان لم يرضَ بأن “يزعّل” منه “حزب الله”، فظهر على شاشته “المنار” كما يظهر على شاشة “التيار الليموني”، ولم يعاند حركة “أمل” ورئيسها في المجلس النيابي، فكان من دعاة الحوار للاتفاق على رئيس “جامع” وتوافقي لسد الفراغ الرئاسي. علماً ان تجربة الرئيس التوافقي ميشال عون لا تزال أمام أعين اللبنانيين، والتي أوصلت البلاد إلى المحرقة التي يتلظى بنارها اللبنانيون بعد سيطرة “حزب الله” على مفاصل الدولة، وهيمنة الفساد، والسماح بخرق الدستور في العهد الميمون، كذلك السماح لإيران بأن تعلن احتلالها لأربع عواصم عربية وامتداد نفوذها حتى شواطىء البحر المتوسط، قبل أن تعود لترفع راية السلم النفطي مع اسرائيل من خلال اتفاق الترسيم على الحدود البحرية.
قد يكون النائب التغييري حسب دعايته الانتخابية على المستوى الشخصي محبوباً، وله أصدقاء ومعارف، وهو من عائلة مناضلة كما يقال وموضع التقاء بين فعاليات سياسية واجتماعية. وقد وصف بأنه “عابر للطوائف”، وطبيب ناجح، لكن ذلك لا يعني أبداً أن قراءته السياسية في محلها ويمكن للتغييريين القبول بها، ولكن هل يمكن معالجة الإعوجاج؟.
ومن يصدق أن مواقف الياس جرادي ليست مبنية على حسابات شخصية وعلى مراهنات، مراضاة الأقوى لحفظ كرسي النيابة له لاحقاً.
لم يعد كما يقال إنه إبن ثورة 17 تشرين، فالنظرة تغيرت اليه وهو متهم بأنه وديعة “حزب الله” الذي يضع ودائعه في كل المؤسسات، حكومية أو أهلية، صديقة أو عدوة، فكل شيء محسوب.
كلمة أخيرة، إذا كان لا بد من التصديق بأن طبيب العيون سياسي مستقل كما يحاول أن يوحي، فإن مواقفه لا تبدو كذلك. وقد بدا ذلك بوضوح من خلال “غمغمته” بتحميل السلطة ما جرى في موضوع الترسيم، علماً ان (ا ل ح ز ب) كان يقودها من وراء الستار، ولولا موافقته لما حصل ما حصل من تضييع لثروات لبنان. وهو اليوم سيضيّع اراضي الجنوب من خلال سياسة التحديات ورعونة التصرفات وتمجيد الصواريخ وتهديد قبرص وغيرها، وكأن جيش العدو لا يمتلك طائرات ولا دبابات ويده لا تطال ما بعد قبرص. فقليل من التواضع والعقلانية يحفظ لبنان، ويعيدنا من حافة الحرب الشاملة.