![](https://akhbarkum-akhbarna.com/wp-content/uploads/2023/05/9d9433bb-089a-4ff5-8f9e-3ce187f9d05e-800x500.jpg)
كتب شوقي حسن
قام زياد الرحباني برثاء « صبحي الجيز »، الكناس الشيوعي فى أغنية تحمل اسمه وأطلقها عبر صوت المطرب خالد الهبر في ألبومه «إلى حبيبتى على سبيل التطمين» عام 1976، وغنتها السيده فيروز عام 2001.
في منتصف السبعينات في بيروت، كان هناك شاب فقير عاشق لموسيقى الجاز التي كانت قد بدأت تظهر حديثا في لبنان. وكانت مهنته لا تأته بما يسد به رمقه، الى ان حظي بفرصة العزف في إحد مطاعم بيروت الفاخرة.
طلب منه مدير المطعم ان يمتنع عن عزف أي من مقطوعات الجاز كونها لا تتناسب مع ذوق الطبقة المخملية المتواجدة في المطعم، لأنها موسيقى السود المسحوقين و يجب عليه أن يعزف الألحان السيمفونية الراقية.
كان يصل متأنقا بثياب اشتراها على حساب المطعم، ويستمر بالعزف حتى مطلع الفجر، وبعد أن يثمل جميع الحاضرين، ويشارف المطعم على الإغلاق، يأخذ أجرته ويقفل عائدا إلى منزله سيرا على الأقدام.
في إحدى الليالي كان الليل مقمرا وجميلا والسكون يلف الحارات البيروتية، مر الموسيقي الشاب من احد الزواريب حيث صادف كناسا نحيلاً يجلس على الرصيف ويقرأ أحد الكتب المرمية في القمامة، أثاره المنظر وأدهشه، ولم يستطع إلا أن يقف ويلقي التحية على هذا الكناس ودار بينهما أول حديث، تعرفا من خلاله على بعضهما البعض ونشأت بينهما صداقة وعلاقة ثقافية.
اعتاد العازف المرور الى صديقه كل ليلة، واعتاد الأخير على أحاديث الشاب الطريفة عن أبناء الطبقة المخملية الذين يقضي وقته كل ليلة بينهم، ومع الأيام علم العازف أن صديقه مناضل قد سبق وانتسب إلى الحزب الشيوعي بعد دراية وثقافة وخبرة.
وراح صبحي الجيز يحدث الشاب عن الحزب الشيوعي، وبدأ الشاب يقتنع بأفكار الحزب، ويقصد صاحبه كل ليلة كي يسمع ويتعلم أكثر، ورغم أن مصادرهما كانت أغلبها من الكتب المرمية في سلال القمامة إلا أنها كانت تفتح لهما أبوابا للنقاش لا تنتهي.
أصبح العازف يتخذ من صاحبه مثلا أعلى في النضال ضد الساسة اللذين لا يهتمون بالمهمشين والضعفاء، وبدأ يتقرب من الحزب الشيوعي أكثر فأكثر، وهو يزداد قناعة بأن الفقراء ليسوا حثالة المجتمع كما تعود أن يعاملوه في مطعمه الفاخر، وأن الكادحين هم شرفاء حتم مصيرهم أن يعملوا بأجور زهيدة دون خيار آخر،… أفكار كثيرة بدأت تملأ صدره برفض الظلم والفساد والإقطاع، وأنه لا بد من الثورة على هؤلاء المتغطرسين الذين يجلسون كل ليلة ليتفاخروا بالسخافات.وكان ان قرر الموسيقي الشاب أن ينتسب الى الحزب الشيوعي على يد الرفيق صبحي الجيز، والذي كان منذ البداية يرفض إلا أن يناديه بـ “الرفيق صبحي” .
وتمضي الأيام الى أن خرج العازف في إحدى ليالي الشتاء الباردة قاصدا مطعمه الدافئ ليقدم وصلته الموسيقية، ولكنه قبل ذلك قرر أن يعرج إلى الحارة التي يتواجد فيها الرفيق صبحي من أجل أن يخبره بسعادة غامرة عن اتخاذه القرار النهائي بإنضمامه الى الحزب الشيوعي، وأنه قرر أخيرا وعن كامل قناعة وهو متسلح بكل أشكال الثقافة أن يصبح (رفيقا) مع رفاقه الكادحين والثوار المساكين..وعندما وصل في عتمة ذلك الليل البارد إلى الرصيف الذي يسكنه صبحي، وجده مسجيا على الأرض بين أكوام القمامة، معانقا مكنسته وقد غفا الغفوة الأخيرة بجوار صندوقه وكتبه وقصاصات الجرائد والمجلات .
مات الرفيق صبحي الجيز، قتله البرد البيروتي، ظل ينتفض من البرد والحمى تغتاله رويداً رويداً، وليس لديه ما يشتري به الدواء المخفف للحمى والمضاد لميكروبات الأنفلونزا القاتلة. رماه البرد بين أكوام الزبالة..
إستيقظ يا صبحي،
عفوا… استيقظ يا رفيق صبحي
جئت لأخبرك بأنني معك
اليوم أصبحت رفيقك،
لا تتركني وتمضي .. هذه عادة الأيام الخادعة وليست عادتك… قم يا رفيق، فأنا بدونك لست أدري ما سأفعل.
في تلك اللحظة أمطرت بيروت بشراسة. كانت غاضبة سماء بيروت، وكان العازف منهكاً خائر القوى، جلس على رصيف الكرامة مع صديقه الصامت. أمطرت عيناه في ذات اللحظة، ومن الكشك في الحارة المجاورة إتصل بإدارة شؤون الموتى ليأتوا ويحملوا هذا الميت الذي لم يكن يمتلك ثمن شراء بطانية أو معطف، لكنه يمتلك قلباً يدفىء العالم. تأخر الموسيقي ساعة عن موعد وصلته الموسيقية ، ولكنه ذهب مكسوراً و في حلقه غصة مرة.
اتجه الموسيقي الحزين إلى مطعمه الدافئ والبرد يسكن في شرايينه، دخل إلى الصالة المخملية، واتجه إلى صدر المطعم حيث ينتظره البيانو… سمع التصفيق البارد والمعتاد .
دون تردد همس في الميكروفون : كفاكم برودا، فالبرد قتل صديقي ورفيقي صبحي الجيز. وضع أصابعه على البيانو، وبقلب ثائر ومكلوم بدأ يعزف لهم ولأول مرة لحنا من موسيقى الجاز.
صدم صاحب المطعم واقترب منه ليخبره بأن هذا النوع من الموسيقى محرم وممنوع.
رفض أن يستمع اليه، واستمر ينقر أعصاب الحضور بموسيقى الجاز، فاستشاط المدير غضبا واقترب منه وقال له: “بس يا غبي، خلصنا بقى”، ولكنه لم يكترث واستمر بالعزف…ـ
هنا نهضت إحدى جميلات المجتمع وقالت له موبخة بلهجة مليئة بالاستعباد والفوقية: “يعني هلأ إنتا شو قصتك؟؟”، نظر إليها وهو مايزال يعزف وقال:
رفيقي صبحي الجيز تركني ع الأرض وراح
رفيقي صبحي الجيز حط المكنسة وراح.
راح ما قالي شو بقدر أعمل لملايين المساكين
رفيق يا رفيق وينك يا رفيق؟
حملتني إشيا كتيرة
حجار وغبرة وصناديق
غيرتلي اسمي الماضي
عملتلي اسمي (رفيق)ـ
ـ (رفيق) وما عندي رفيق
ورح يبقى اسمي رفيق
عم فتش ع واحد غيرك
عم فتش ع واحد متلك
يمشي… يمشي… بمشي
نمشي
ومنكفي الطريق
نمشي ومنكفي الطريق
نمشي ومنكفي الطريق
يا رفيق
*الموسيقي هو الفنان خالد الهبر