كتب مسعود محمد لـ ” أخباركم – أخبارنا”
اثر وصول الاحتلال الاسرائيلي الى بيروت واحتلال اول عاصمة عربية، اعلن جورج حاوي الأمين العام للحزب الشيوعي اللبناني يومها ومحسن ابراهيم الأمين العام لمنظمة العمل الشيوعي إنطلاقَ جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية ضد الإحتلال الإسرائيلي “جمول”.
اوضحَ البيان التأسيسي الذي صدر من منزل الشهيد كمال جنبلاط في المصيطبة اهداف “جمول” في وطن سيد حر مستقل عابر للطوائف.
يوم عزت فيه الرجال، إنطلق المقاومون الوطنيون على مساحة كل المناطق اللبنانية المحتلة ليواجهوا العدو بما تيسر من اسلحة وابدعوا.
قاوموا وحدهم طيلة عشر سنوات تعرضوا خلالها للطعن والغدر والطرد واحياناً الإغتيالات من “ذوي القربى”. كان الجميع ضدهم من الدولة بكامل اجهزتها إلى البيئة التي نثر افرادٌ منها الأرز على دبابات الإحتلال في الجنوب. ومع هذا، وصلت جمول إلى رأس العمالة انطوان لحد الذي اصابته المناضلة سهى بشارة بالمسدس الشخصي لأبي انيس. كما تم قبل ذلك تدمير إذاعة العملاء في بلدة مرجعيون، إلى غير ذلك من العمليات النوعية التي يضيق المجال لذكرها في هذه العجالة.
نفذت جمول اكثر من 5000 مهمة بينها 1113 عملية بطولية، شارك فيها ما يزيد على 7000 مقاوم وطني وقدمت 183 شهيداً و1200 جريح و3000 معتقل.
الردود على الاحتلال لا تكون عادة مدروسة محدودة استعراضية، بل تكون ثورية تدفع باتجاه التحرير ورفض العمالة والخيانة.
من العمليات الاستثنائية التي دفعت باتجاه رفض ثوري قاطع للاحتلال كانت العملية التي نفذتها المناضلة سهى بشارة عضو جبهة المقاومة الوطنية بحق رأس الخيانة انطوان لحد. العملية لم تكن استثنائية بتخطيطها وتنفيذها بل أيضاً ببعدها الانساني عندما رفضت سهى زرع عبوة ناسفة حتى لا توقع الاذى بزوجة وابن العميل فهم لا ذنب لهم بعمالته.
امس كانت ذكرى خروج المناضلة اللبنانية سهى بشارة من سجن الخيام في 3 سبتمبر 1998، بعد قضاء عشر سنوات في أحد أشد السجون قسوة في تاريخ الاحتلال الإسرائيلي. سهى بشارة، الناشطة التي أصبحت رمزًا للمقاومة والصمود، ولدت في عام 1967 في مدينة مرجعيون بجنوب لبنان، ونشأت على حب وطنها والاستعداد للدفاع عنه بأي ثمن.
في عام 1988، نفذت سهى بشارة عملية بطولية استهدفت أنطوان لحد، قائد “جيش لبنان الجنوبي” المدعوم من إسرائيل، محاولةً اغتياله كجزء من المقاومة ضد الاحتلال. وعلى الرغم من نجاحها في إصابته بجروح خطيرة، إلا أنها أُسرت فورًا وتعرضت للتعذيب الوحشي داخل سجن الخيام. طوال فترة اعتقالها، تعرضت سهى لأقسى أنواع التعذيب النفسي والجسدي، لكنها ظلت متمسكة بمبادئها وبروح المقاومة، ولم تستسلم للظروف القاسية التي كانت تعيشها.
وهنا لا بد من التذكير بأن محاولة استهداف كبار العملاء، لم تقتصر على انطوان لحد، لا بل هناك واقعة متعلقة بسلفه سعد حداد. فقد وردت معلومات، في مرحلة ما، لامين عام الحزب الشيوعي جورج حاوي تفيد بان العميل سعد حداد مصاب بمرض خبيث. ابلغ الأمر لقيادة المقاومة وقال من العار علينا ان يموت هذا العميل بشكل طبيعي، وعندها بدأ التخطيط لقتله. العملية الأولى كانت زرع عبوة لموكبه على طريق عام مرجعيون القليعة، تنفجر العبوة وينجو العميل حداد بأعجوبة. كرر الجبهة المحاولة ثانية، فقد وردتها معلومات ان سعد حداد سيلقي خطاباً عبر “تلفزيون الشرق الأوسط” الذي كان يبث من محاذاة الشريط الحدودي، فارسلت المقاومة سيارة مفخخة كي تنفجر بعد عشر دقائق من بدء خطابه، ومرة أخرى حالفه الحظ بحيث حصل خلاف بينه وبين مقدمة البرنامج. والمعروف عنه انه كان صاحب مزاج سيئ، فغادر غاضباً، ولكن السيارة انفجرت ودمر مقر التلفزيون الذي كان عبارة عن استوديو نقال يبث عبر الأقمار الاصطناعية ومركزه الرئيسي في قبرص.
ظروف تحريرها واستقبالها
ظروف تحرير سهى بشارة جاءت نتيجة لضغوط دولية ومحلية متزايدة على إسرائيل وحلفائها في جنوب لبنان، خاصة مع تصاعد الانتقادات الموجهة إلى ممارسات سجن الخيام، الذي كان يُعرف بأنه رمز للقمع وانتهاك حقوق الإنسان. في 3 أيلول 1998 طوت سهى بشارة عشر سنوات من الإعتقال وعادت الى بيروت بعد وساطة فرنسية نجحت في اخراجها من معتقل الخيام، حيث كانت محتجزة من دون محاكمة لمحاولتها اغتيال قائد جيش لبنان الجنوبي اللواء انطوان لحد. ابتسمت سهى وهي ترفع علامة النصر بيديها لدى خروجها من سيارة تابعة للصليب الأحمر أقلتها إلى مقرّ رئاسة الحكومة اللبنانية في السراي الكبير، حيث استقبلها رئيس الوزراء رفيق الحريري. وكان في استقبالها أيضاً أمين عام الحزب الشيوعي فاروق دحروج وسلفه جورج حاوي.
عند خروجها من السجن، تم استقبال سهى بشارة استقبالًا حافلًا من قبل عائلتها وأصدقائها والشعب اللبناني عامة. تجمهر الناس للاحتفال بعودتها، حيث رُفعت الأعلام اللبنانية وصور سهى كرمز للصمود والمقاومة. كانت لحظة خروجها من السجن بمثابة انتصار ليس فقط لها شخصيًا، بل للمقاومة الوطنية بأسرها.
عندما أهدى جورج حاوي مسدسه الصغير إلى سهى بشارة حتى تنفّذ عملية اغتيال اللواء لحد، كان لا يزال أميناً عاماً للحزب الشيوعي. تمكّنت سهى بنت دير ميماس في الشريط الحدودي من بناء علاقة عائلية ووظيفية مع عائلة لحد، ودخلت إلى منزله كمدرّبة «أيروبكس» لزوجته، وكانت بعمر 20 عاماً، ونتيجة هذه العلاقة كلّفها حاوي بمهمّة اغتيال لحد. مساء 17 تشرين الثاني 1988 دعت زوجة لحد سهى بشارة لتناول الشاي معها، وافقت. وعند دخول لحد، أطلقت عليه طلقتين من مسدس عيار 5.45 ملم، وأصابت صدره وذراعه، قبل أن يقبض عليها حرسه الشخصي وتُنقَل لاحقاً إلى معتقل الخيام.
كانت تلك العملية من العمليات التي لعب فيها حاوي دوراً رئيسياً واعطاها اهتماماً خاصاً. قبل ذلك بثلاثة أعوام كان حضر مع المسؤول العسكري في الحزب الشيوعي الياس عطالله إلى عنجر للقاء مسؤول المخابرات السورية في لبنان اللواء غازي كنعان بناء على طلبه. وهناك أبلغهما بأنّ عليهما وقف العمليات الأمنية ضد إسرائيل وجيش لبنان الجنوبي لأنّ هناك قراراً بأن تتولّاها جهة واحدة هي «حزب الله» برعاية النظام السوري. وهكذا تحولت المقاومة من وطنية الى اسلامية من ثورية الى معلبة تنفذ عمليات مدروسة لا تغضب العدو.
تجربتها الأدبية وشهادة التاريخ
بعد خروجها من السجن، وثقت سهى بشارة تجربتها في كتابها “مقاومة: مذكرات سهى بشارة” الذي صدر أولًا بالفرنسية تحت عنوان “Résistante”، ثم تُرجم إلى لغات عدة، بما في ذلك العربية. في هذا الكتاب، تسرد سهى تفاصيل حياتها كمقاومة وكيف واجهت محاولات قمعها في السجن. تعكس صفحات الكتاب شجاعة امرأة صمدت أمام التعذيب والظلم، وتروي تفاصيل دقيقة عن حياتها داخل السجن، وعلاقاتها الإنسانية مع السجينات الأخريات، وكيف حافظت على روحها المعنوية في وجه الظلم.
الكتاب لاقى إشادة واسعة من النقاد والقراء، حيث اعتُبر شهادة تاريخية وإنسانية قوية، تمزج بين الواقع القاسي واللمسات الأدبية المؤثرة. استُقبل الكتاب كوثيقة سياسية وإنسانية تلهم الأجيال الجديدة بفكرة المقاومة ضد الظلم، ليس فقط في لبنان، بل على مستوى العالم.
ذكرى خروج سهى بشارة من السجن في مثل هذا اليوم تُعيد للأذهان قوة الإنسان في مواجهة القمع، وتجسد قصة صمود المرأة اللبنانية في وجه الاحتلال. قصة سهى بشارة وكتابها “مقاومة” تبقى حية في الذاكرة الجماعية، تمثل رمزًا للإرادة الإنسانية التي لا تنكسر، وتجسد القيم الأبدية للحرية والعدالة التي تستحق النضال من أجلها.