كتب د. وفيق ريحان لـ ” أخباركم – أخبارنا”
كيف يمكن للبنان أن يخرج من دائرة الصراعات المتفاقمة في المنطقة بأقل الخسائر الممكنة؟ وكيف يمكن أن يحمي حقوقه المشروعة والمصلحة الوطنية دون الإنزلاق الى نطاق أوسع من الصراع في ظل أوضاعه الداخلية المتردية؟ إنها تساؤلات كل مواطن على الأرض اللبنانية. وهذه المعارك ليست الأولى في صراع شعوب المنطقة مع دولة الإحتلال الإسرائيلي، ولن تكون الأخيرة طالما تستمر سياسة هذا الكيان العنصري في إعتماد وسائل القهر والسيطرة العسكرية المنافية لأبسط حقوق المجتمعات في هذه المنطقة، وصولاً الى حرب الإبادة الجماعية التي يستمر بممارستها على قطاع غزة والشعب الفلسطيني، رغم صدور القرار الدولي الأخير عن محكمة العدل الدولية، الذي يفرض على هذا الكيان العنصري الإمتناع عن ممارسة جرائم القتل والإبادة الجماعية المتمادية، وذلك دون أي إكتراث من قبل حكومة الحرب الإسرائيلية للجانب الإنساني والأخلاقي في ممارساته الرعناء بالقتال ضد المدنيين العزل، وبأساليب بشعة لا تخلو من العنصرية والحقد والكراهية ضد الشعب الفلسطيني وحقه بالوجود وبقيام دولته المستقلة وذات السيادة على أرضه المسلوبة، في ظل هذا الواقع الأليم ، ما زالت المعارك مستمرة على أرض فلسطين وفي جنوب لبنان، دون التوصل راهناً الى الإتفاق على هدنة إنسانية أو وقف للقتال مع هذا العدو، الذي ما يزال مصراً على توسعة دائرة إعتداءاته، من أجل فرض شروطه الجائرة على شعوب المنطقة، وتحقيق أهدافه اللاإنسانية على حساب القضية الفلسطينية التي أقرتها المعاهدات والمواثيق والقرارات الدولية منذ عقود من الزمن، مستغلاً حالة التضامن الأميركي والأوروبي معه الى أقصى الحدود، وإستمرارية دعمه بالمال والسلاح والموقف السياسي على مستوى الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي، مما جعله يستبيح كافة الشرائع الدولية وحقوق الإنسان على أوسع نطاق.
أوضاع الجنوب اللبناني قبيل المعارك الحدودية الأخيرة . بالرغم من الأزمات المعيشية والإقتصادية والمالية التي يعيشها لبنان، وبوجه خاص ما بعد حالة الإنهيار الإقتصادي العارمة منذ العام 2019 وحتى تاريخه، فلقد شهدت مناطق الجنوب اللبناني بعد معارك العام 2006 حالة من الإستقرار والهدوء الأمني النسبي حتى أواخر العام 2023، نمت في ظلها المشاريع الإنمائية المتنوعة، من مشاريع عقارية وسياحية وصناعية خفيفة ومتوسطة، وزراعية وتربوية وصحية وخلاف ذلك من المشاريع الإستثمارية، بحيث توجهت رساميل المغتربين والمقيمين بوجه عام نحو القيام بتلك المشاريع، لا سيما في ظل الأزمة المالية والمصرفية القائمة، وإنعدام الثقة بالقطاع المصرفي وإحتجاز أموال المودعين بطرق غير شرعية، ولقد برزت خلال السنوات الأخيرة ظاهرة نمو القطاع السياحي في الجنوب، بحيث إنتشرت المنتجعات والمطاعم والشاليهات والمنتزهات السياحية و البحرية والنهرية، كما إنتشرت ظاهرة مصانع المياه المعدة للشرب ومصانع المشتقات الحلبية، كما إنتشرت ظاهرة إستخدام الطاقة الشمسية الى جانب المولدات الخاصة وبضع ساعات التغذية من مؤسسة كهرباء لبنان، وتنامت إيرادات البلديات تبعاً لذلك، كما ساهم المغتربون في دعم عدد كبير من المشاريع الإنمائية في غالبية قرى الجنوب والبقاع الغربي. كل ذلك كان بفضل حالة الإستقرار الأمني التي لم يكن ينعم بها أهالي الجنوب منذ عشرات السنين السابقة.
الأوضاع الراهنة وسبل الخروج من الأزمة
تشير غالبية الدراسات والإحصائيات الراهنة الى تضرر أكثر من ألف منزلاً سكنياً بصورة كاملة، والى حدوث أضرار بما يزيد على خمسة آلاف وحدة سكنية ومحال تجارية وهنغارات ومستودعات وخلاف ذلك. كما تشير تلك الإحصاءات الى نزوح أكثر من مئة ألف مواطناً، والى إزدياد وتيرة الهجرة الى الخارج، والتي كانت مرتفعة خلال العام 2023، حيث هاجر قرابة 173 ألف لبناني، كما خرجت كميات هائلة من الرساميل الى خارج الأراضي اللبنانية، بحثاً عن الأمن والإستقرار، وذلك عدا عن دمار أو تضرر جميع المشاريع الإنمائية والإنتاجية الآنفة الذكر، وخسارة الأصول فيما خص القطاعات السياحية والصناعية والزراعية والصحية والتربوية، وتضرر البنى التحتية لا سيما في المناطق الحدودية الممتدة من الناقورة حتى مزارع شبعا وصولاً الى البقاع الغربي. كما أن حالة النزوح بسبب تفاقم المخاطر ما زالت مستمرة حتى الآن، في ظل عجز الدولة عن تأمين جميع المستلزمات اللازمة، وإستنكاف المستشفيات عن إستقبال حالات المرضى التي تغطيها وزارة الصحة، وخلاف ذلك من المستلزمات الحياتية الضرورية، بإستثناء بعض المساعدات المالية والعينية المتواضعة التي تقدمها الحكومة اللبنانية حتى الآن من خلال خطة الطوارىء بالتنسيق مع البلديات في المناطق الجنوبية، والدعم المالي والعيني من قبل الجمعيات التابعة للثنائي الشيعي والمجتمع الأهلي والجمعيات المدنية على إمتداد قرى الجنوب، هذا بالإضافة الى العدد الكبير من الشهداء المقاومين الذين تجاوز عددهم المئتي مجاهداً بالإضافة الى عشرات الجرحى. لذلك ترتدي أهمية بالغة مسألة البحث في طرق التصدي لهذه الأزمات على مختلف الأصعدة السياسية والإقتصادية والإجتماعية والأمنية.
وينبغي القول بانه مع انتهاء العام 2024 اي بعد مرور اكثر من عام على اندلاع حرب المساندة من جنوب لبنان ضد الكيان الاسرائيلي ، لقد وصل عدد شهداء المجاهدين الى ما يزيد عن 520 ..والعدد الاجمالي الى ما يزيد عن ال700 ..واكثر من 1500 جريحا عدا عن دمار المنازل والمؤسسات والبنى التحتية في قرى المواجهة مع العدو الاسرائيلي؟ والايام القادمة ستكون اصعب بكثير من الايام الماضية من خلال التالي :
أ – على الصعيد السياسي: لا يبدو حتى الآن أن جهود الدول الخماسية برعاية قطرية قد توصلت الى وضع حد للأعمال الحربية في كل من لبنان وفلسطين، وذلك بسبب التعنت الإسرائيلي لفرض شروطه الجائرة في عملية تبادل الأسرى المرتقبة أو إعلان الهدنة الإنسانية التي يطلبها أيضاً المجتمع الدولي.
لذلك، فإن حالة عدم الإستقرار الأمني قد تستمر لعدة أشهر إضافية، ينبغي خلالها بذل الجهود السياسية والديبلوماسية الحثيثة من أجل التوصل الى تسوية ما تعيد بعض الإستقرار والهدوء الى ربوع بلادنا، من خلال التمسك بالمطالب والحقوق اللبنانية بالدرجة الأولى، وذلك سعياً لفرض تطبيق القرار الدولي 1701، والمطالبة بإسترداد الأراضي اللبنانية التي مازالت تحت الإحتلال الإسرائيلي، وترسيخ حالة الإستقرار الأمني على الحدود الجنوبية بإشراف “قوات اليونيفيل” العاملة في لبنان، والقوى العسكرية والأمنية اللبنانية وعلى رأسها الجيش اللبناني، وعدم الإيغال في ربط الساحة الجنوبية بما يحصل في فلسطين المحتلة، إلا في إطار المعالجة الدولية والعربية الشاملة للقضية الفلسطينية.
ب- على الصعيد الإقتصادي : لا يمكن الحديث راهناً عن إستقرار الحالة الإقتصادية في الجنوب إلا في ظل حالة الإستقرار الأمني، كما أن العملية الإقتصادية هي حالة دائرية مترابطة، وترتكز الى ضرورة وجود بنى تحتية سليمة وفاعلة، ومؤسسات مستدامة عامة أو خاصة، ووجود مناخ إستثماري محفز للإستثمار، وخطط إقتصادية ذات رؤية إنقاذية وعنصر بشري يدير تلك العمليات، مع وجود الرساميل اللازمة لتلك العمليات، وقطاع مصرفي فاعل، بالإضافة الى وسائل التكنولوجيا الحديثة. لكن ذلك ما زال غير متيسر في هذه المرحلة الدقيقة والصعبة.
ج- على الصعيد الإجتماعي: إن معالجة قضية النازحين ما زالت تحت السيطرة حتى الآن، لجهة تأمين المنازل أو أماكن الإيواء بنسبة مقبولة، كما أن التقديمات المالية والغذائية والعينية والصحية، قد أصبحت دون المستوى المطلوب، نظراً لطول مدة التهجير القسري، وقلة الإمكانيات وإزدياد وتيرة النزوح الداخلية، وتردي الأوضاع الصحية والتربوية والإنسانية في ظل التهديدات الإسرائيلية بغزو المناطق الجنوبية في حال عدم الإلتزام بالشروط الأمنية والعسكرية ذات الصلة بتطبيق القرار 1701. فهل سوف يتمكن اللبنانيون عموماً، والجنوبيون بوجه خاص من الصمود في هذه المرحلة؟ أم أنه قد فرض علينا دائماً أن ندفع ثمن حروب الآخرين على أرضنا؟ وحيث يقف الجنوب الآن على شفير الهاوية مستشرفاً سبل المواجهة مع هذا العدو المتعطش للدماء والدمار من جهة، أو اللجوء الى الطرق السياسية والديبلوماسية للحفاظ على وحدة الوطن والكيان من خلال تضامن جميع أبنائه في مواجهة الغطرسة الإسرائيلية.