عبد الرحيم التوراني لـ ” أخباركم – أخبارنا”
لست خائفا، لكني قلق بعض الشيء، قلق غامض ومريب، صار يكبر معي يوما بعد يوم.
لا أستطيع النوم ليلا بسهولة. يكاد الأرق زائرا مترددا، وأحيانا أخرى مقيما لدي بشكل يطول أمده.. مع حالة إمساك وعسر في الجهاز الهضمي.
صديقي الطبيب هوَّن علي المشكلة، يقول إن الأمر عادٍ، فمن يعانون من ارتفاع ضغط الدم، أو من أمراض القلب، أو من التوتر، يمكن أن تنخفض لديهم الهرمونات المرتبطة بالنوم، لذلك هم يصابون بالأرق.
أنا واحد من بين هؤلاء الذين ذكرهم صديقي الطبيب..
في الحقيقة إن كل هؤلاء اجتمعوا في، أو كما قال زياد الرحباني في أغنية “أنا مش كافر”.. (… لكن شو بعملّك إذا اجتمعوا فيّي.. كل الإشيا الكافرين…)..
والأرق كافر ولا شك..
صديق آخر ابتسم ضاحكا لما حكيت له خصامي مع النوم، يقول:
- إن في رأسك يا صاحبي ولا شك محرك ثقيل لا يتوقف، حتى وأنت نائم تتركه مشغلا، بينما يجب علينا إطفاء المحرك قبل النوم، جرب ألا تبقي ذهنك مشغولا أثناء الليل.
كيف؟… ما أسهل الكلام.. ما أرخص النصح؟
إن الأمر ليس بيدي لو تعلم يا صاح.. فلا تقترح علي تناول أدوية تساعد على تحسين النوم، تكفيني أدوية الضغط وما شابهها…
لا أذكر أني كنت منظما من قبل في حياتي اليومية، أقصد أني لست من الذين يذهبون إلى النوم مبكرا ويستيقظون مبكرا، حفاظا على تعزيز مناعتهم وراحتهم النفسية وعلى سلامة صحتهم.
بل إني من الذين ينتظرون أن يأتي النوم إليهم ليسحبهم سحْباً، إن لم تقل ليسْحَلَهم ويجرهم جرّاً من أشفارهم ليلقي بهم إلى قاع السرير..
مع ذلك، وأنا في سرير النوم لا أكاد أتخلى عن صحوي، آخذ معي كل النهار، بانشغالاته ومعاناته، فلا أستطيع التخلص من الأصوات التي في رأسي.
خصوصا إثر موت شخص عزيز أو كارثة إنسانية.. وقد أصبحت أخبار الموت والقتل هي الغالبة…
لم أنتبه حتى الآن، أن إدارة الفيس بوك غيرت سؤالها عندما تفتح حسابك أو حائطك. بدلت سؤالها المقتبس من أسئلة التحقيق البوليسي، تلك الأسئلة التي ترغمك كمتهم على البوح قسرا بما يدور في ذهنك من أفكار هدامة، وماذا تخبئ في عقلك الباطني من دسائس ومؤامرات.
في السابق كان سؤال مارك زوكربيرغ وجماعته يسأل: – بماذا تفكر؟
فحولوه إلى سؤال: – ما الجديد؟
ما الجديد؟ سؤال اعتدنا تبادله بين معارفنا وأصدقائنا لما نلتقي بعد التحية والسلام، وأحيانا قبل السلام.
عادة، يتبادل جل المغاربة سؤال الحشرية بلغة الاطمئنان: – آش اخبارك؟ آش اخبار موالين الدار؟ وفلان وفلان.. آش اخبارهم؟
بينما المصريون يتبادلون سؤال الرداء أو اللباس: – إزَّيَّكْ…؟
والعراقيون سؤال اللون: – إشْ لونك…؟
واللبنانيون والفلسطينيون والسوريون، (الشوام عموما)، سؤال الكيف: – كِيفك…؟ كما تساءلت مرة فيروز في واحدة من أجمل أغانيها “كيفك أنت…؟”…
- بماذا تفكر؟
- أفكر في هزم الفقر والجهل والأمية والمرض وقهر التخلف، والانتصار على الأعداء؟
- ومن هؤلاء الأعداء؟
- إضافة لما ذكرت، هم الذين يشكلون عصابات الفساد، ناهبو المال العام، المنكلون بفقراء الوطن… وهم أيضا القتلة المجرمون، رعاة الدمار والإبادة الجماعية في فلسطين ولبنان، وكل من سايرهم وأحنى لهم الرأس وبايعهم، قناعة أو خوفا أو عن ضلالة وتضليل…
- وما الجديد؟
- لا جديد تحت سماء القهر والعدوان، سوى غلاء الأسعار وغضب الطبيعة زلازلا وفيضانات طوفانية شردت الناس وزادت من ويلاتهم..
الجديد هو خرق جدار الصوت الذي يتردد مرات في اليوم في سماء لبنان بعد غزة، وقد انتقل الخرق إلى ما هو أكثر فظاعة وعدوانية، إلى قصف بالصواريخ والقاذفات التي تستهدف المدنيين، ولا تميز بين شيخ وامرأة وطفل، الكل في مرمى شهواتها الدموية.
أعرفتم الآن لماذا يهرب مني النوم، أو أنا من يهرب منه؟
لا يستنجد أحد منكم بروايات إحسان عبد القدوس الرومانسية.. إحداها حملت عنوان: “لا أنام”، ونقلت إلى السينما في فيلم ميلودرامي، من إخراج صلاح أبو سيف، وبطولة فاتن حمامة ويحيى شاهين ومريم فخر الدين وعمر الشريف ورشدي أباظة وهند رستم وعماد حمدي.
لكن إذا شئتم، فلا يجب نسيان أن الفيلم سبق ظهور الرواية الأصلية في كتاب، إذ أنجز الفيلم في عام 1957، سنة بعد العدوان الثلاثي على مصر جمال عبد الناصر. أما نشر الرواية فتأخر حتى سنة 1969، عامان بعد هزيمة حزيران.
تحكي قصة الفيلم – الرواية عن فتاة من أم مطلقة، يتزوج والدها من امرأة أخرى، لكن الفتاة ستكتشف خيانة زوجة الأب، مع ذلك لا تخبر والدها وتتسر على الخيانة. وبنهاية قدرية (من نهايات “الجمهور عايز كده”) يسدل الستار على الأحداث بمشهد النيران المشتعلة في ثوب زفاف الفتاة بعشيق الزوجة الخائنة، وبإنقاذ حياة ستعيش مشوهة الملامح من آثار الحريق.
بإسقاط بسيط لرواية إحسان عبد القدوس على أوضاعنا العربية الحالية، علينا أن نبحث عن الخونة، عن سر الخيانات التي تسكن بين ظهرانينا وتلبسنا، ولماذا الاستمرار في التستر على الجريمة، وهل علينا انتظار تدخل الأقدار لتنتقم لنا وتفدينا…؟
أم علينا الهرولة إلى أقرب صيدلية تبيع مسكنات مستوردة أكثر نجاعة في تسكين الوجع، تساعد على تحسين نومنا بشكل أفضل لراحة النفس، نوم مصحوب بشخير مموسق على عزف النشيد العربي من شعر محمد مهدي الجواهري:
ناموا ولا تستيقظـوا ما فــاز إلاَّ النُّـوَّمُ
يا قـوم لا تتكلَّـموا إن الكــلام محـرَّمُ
وتأخَّروا عن كلِّ مـا يَقضي بـأن تتقدَّموا
ودَعُـوا التفهُّم جانبـاً فالخير ألاَّ تَفهـمـوا
أنا خائف، وغير خائف في نفس الآن.
قلق، وغير قلق في الوقت ذاته،
وهذا لعمري أشد ما يبعث على الأحزان القاهرة وعلى مكابدات الآلام الطاعنة..
وهو أخطر استجابة لاطوعية لقسوة الضياع، وإعلان انهزامي واستسلام أمام جبروت استراتيجيات الخراب وطغيان التقتيل والإفناء..
قسوة. تنيكل. قتل. دمار. إبادة..
حياة مشوهة بلا روح.. بملامح مرسومة بحرائق وأدخنة من بروفة الجحيم…
فمتى موعد قيام الساعة…
لعلها مرت فوق رؤوسنا قبل اكتمال دقائق الساعة.. ونحن منومين بالأرق الغامض وبالخوف المريب…