كتب ابراهيم بيرم: ما شهدته تلال كفرشوبا، القرية الجنوبية الواقعة في اقاصي العرقوب ( قضاء حاصبيا – مرجعيون ) يوم الجمعة الاخير من مواجهات بين جمهرة من الاهالي وقوات الاحتلال الاسرائيلي، كان في طياته حدث يتعدى الصراع والتنازع على مساحات ( دونمات ) من الاراضي. ويؤكد اهالي تلك القرية الجردية القصية بأنها جزء لا يتجزأ من ملكياتهم اغتصبته اسرائيل تدريجاً منذ عام 1970، ليبلغ حدود رغبة كل من تل ابيب واطراف لبنانية في تسخين جبهة العرقوب الهادئة نسبياً تمهيداً لجعلها صندوق بريد ساخناً يمكن لأي فريق تحويله الى ميدان وارسال الرسائل العاجلة وغير العاجلة عبره.
ولا ريب ان ثمة من يذكر في بيروت بأن ارضي العرقوب كانت اولى المحطات التي نزلت فيها فصائل المقاومة الفلسطينية التي دخلت لبنان تباعاً بعد عام 1968 وحولتها الى قلعة مواجهة يومية ادت في احدى جولاتها عام 1974 الى تدمير تام لكفرشوبا ونزوح كل قاطنيها. وثمة من تساوره الهواجس الآن في ان تشهد هذه المنطقة عودة خفية لمجموعات فلسطينية غير تلك التي تمركزت في تلك الاراضي في مطالع السبعينات وحولتها الى ما صار يعرف مجازاً بـ “فتح لاند”.
وبصرف النظر عن دقة هذه الهواجس التي يعززها الحديث الاسرائيلي عن مسؤولية حركة حماس في اطلاق اكثر من ثلاثين صاروخاً قبل فترة من بساتين صور نحو الاراضي المحتلة، فان الوقائع المترابطة تشهد انه قبل جمعة المنازلة في تلال كفرشوبا كانت المنطقة هناك شبه منسية وبعيدة عن الاضواء، باستثناء انباء متفرقة عن خطف القوات الاسرائيلية رعاة يسرحون هناك بين الحين والآخر. اذ ان اهالي كفرشوبا ( لا يتعدى عدد المقيمين فيها الثلاثة الاف نسمة ) قد تعايشوا، وان على مضض مع رؤية المواقع الاسرائيلية وابراج المراقبة واجهزة الرصد، وهي تقف بعناد امام ناظريهم منذ عقود، ومشادة على تلال وسفوح كانت يوماً ارضهم الزراعية او مسرح ماشيتهم.
ولكن ما باليد حيلة، فهم واهالي القرى المجاورة وخصوصاً شبعا الاكبر، بذلوا جهوداً حثيثة عبر الدولة ولكنهم لم ينجحوا في تغيير الواقع القائم واستعادة حقوقهم المشروعة، في حين ان الاحتلال كان يمعن في التحدي فيستحدث المزيد من المواقع ويعتقل الرعاة والحطابين ويقضم المزيد من المساحات الواقعة خارج السياج الشائك. وفجأة تجمعت في وقت واحد نذر المواجهة والتسخين والتوتير، اذ ان ثمة من نجح في اعادة “شحن” اهالي كفرشوبا والقرى المجاورة ( شبعا، الهبارية وحلتا ) والمنتمين الى الطائفة السنية بجرعة غضب، معيداً تذكيرهم بواقع الاحتلال لأرضهم.
اذ وقبل نحو خمسة ايام، ظهرت خيمة نصبت على تماس مع الشريط الاسرائيلي الذي يزنر موقع تلة السماقة الاكبر. ومن يومها بدا واضحاً ان المسرح اعد بعناية وان الامور تتجه نحو جولات عنف.
ولعل فتيل الانفجار قد تجسد في مشهد ابن كفرشوبا المزارع اسماعيل ناصر وهو يقف وحيداً بشجاعة فائقة امام جرافة اسرائيلية ضخمة ومدرعة (عسكرية) رافضاً التراجع والانسحاب من امامها وقد كان يمارس اعتراضاً مشروعاً على جرف اسرائيل لأرضه وارض اهل قريته.
المشهد تابعه ملايين الناس عبر التواصل الاجتماعي وتعاطفوا بطبيعة الحال معه، وقد كاد التراب المجروف يطمره تماماً بعدما طمر نصفه، لولا ان تداركه عناصر القوة الدولية المنتشرة هناك.
وبعدها بأقل من اربع وعشرين ساعة اي الجمعة الماضية، كانت المواجهة الاوسع، اذ تنادى مئات الاهالي ومعهم علماء دين ونائب المنطقة قاسم هاشم الى تظاهرة احتجاج ضد الاعتداءات الاسرائيلية المستمرة من جهة، واظهار الدعم والتعاطف مع المزارع ناصر وتمجيد فعله المقاوم.
والذين نظموا تلك الفاعلية، وضعوا في حسابهم عملية التصعيد والمواجهة، اذ ادوا هناك وعلى بعد امتار من الشريط الاسرئيلي صلاة جماعية، ثم القيت خطب حماسية، وبعدها بادر عشرات الشبان وتحت مرأى من عدسات التلفزة المحلية والعالمية الى اقتحام الشريط الشائك والاشتباك بالحجارة مع جنود الاحتلال.
انتهت تلك المواجهة الى بعض الجرحى من المتظاهرين، لكن اصداء هذا الحدث ما زالت تتردد وابعادها تكبر. اذ ان ثمة من اعتبر بأن ما حصل يستبطن رغبة مضمرة عند الطرفين في تسخين متعمد للجبهة. فالواضح ان الاسرائيلي يبحث بدأب منذ عودة بنيامين نتنياهو الى الحكم في تل ابيب عن اي عوامل من شأنها ان تبدي ان حكومته استعادت او رممت قوة الردع الاسرئيلية ونفي صفة التراجع عنها.
وعليه، فان الحدود بين لبنان والاراضي المحتلة والممتدة بين رأس الناقورة صعوداً الى منطقة العرقوب وجبل الشيخ تشهد يومياً استعراضات قوة اسرائيلية مكثفة، وتتجاوز المعتاد ان عبر المناورات المتتالية او عبر انشاء المزيد من الابراج وتسيير المزيد من الدوريات وشق المزيد من الطرق.
وفي المقابل، كان حزب الله يبادر الى الرد على هذه الرسائل التي يعرف تماماً مضامينها ويعي انها رسائل تحد بمثلها او بما يتعداها كما حصل اخيراً في تلال كفرشوبا.
واللافت ان الحزب كان يركز في السابق نشاطه وتحركه في مناطق حدودية اخرى بعيدة عن العرقوب، لكن على ما يبدو عاد الى استخدام هذه الجغرافيا اخيراً، وذلك انطلاقاً من اعتبارات عدة ابرزها:
– ان في هذه الجغرافيا مساحات من الاراضي (مزارع شبعا وتلال كفرشوبا والجزء الغربي من قرية الغجر) هي مناطق غير محددة دولياً، وتنطبق عليها تعريفات المناطق المتنازع عليها كونها مناطق لبنانية وسورية وفلسطينية احياناً ( منطقة متداخلة ) .
– ان تلك الجغرافيا تقع خارج نطاق عمل قوة “اليونيفل” التي استقدمت الى لبنان بموجب القرار الاممي الرقم 1701 (عام 2006) بل هي تتبع عملياً الى سلطة القوة الدولية المعروفة بـ ” الاندوف” التي استقدمت بعد حرب تشرين عام 1973.
والمعلوم ان الحزب كان يستخدم مزارع شبعا مسرحاً لعملياته ضد الاسرائيليين كلما شاء ان يوجه رسالة اليهم او اراد الرد على عملية اسرائيلية طاولته، او استطراداً كلما شاء ان يرسل رسالة الى من يعنيهم الامر، او كلما استشعر ضغطاً غير مألوف عليه خصوصاً من الخارج ليفهم الجميع بأن يده طويلة وان الامن الاسرائيلي في متناوله، لعلمه ان واشنطن حريصة على منع التوتر على نطاق واسع .
وعليه، فان الحزب يعتقد بأنه من خلال احداث الجمعة أظهر أمرين:
الاول، انه حاضر بفاعلية في تلك البقعة الجغرافية الاستراتيجية رغم انها لا تنتمي الى بيئته الحاضنة.
الثاني، انه بمقدوره المساس بقواعد اللعبة وتجاوز الخطوط الحمر اذا ما ارتفع منسوب الضغط عليه.
واكثر من ذلك، يثبت الحزب ميدانياً ان منظومة استيعابه واحتوائه وتقييده بعد حرب تموز عام 2006 تآكلت لدرجة ان اسرائيل نفسها وجهت انذاراً الى اليونيفل تقول فيه أن الجنوب عاد ثكنة عسكرية للحزب، فأوقفوه او سنتصرف نحن.