كتب عايدة الأحمدية لـ ” أخباركم – أخبارنا”
في خضم العدوان الإسرائيلي على لبنان والقصف الممنهج الذي تشهده المناطق اللبنانية، تبرز محاولات إسرائيل لطمس الهوية والتراث الثقافي للبنان كإحدى الممارسات التي تهدف في جوهرها إلى محو الذاكرة الجماعية للشعب وتجريده من عناصر هويته الأساسية.
الاستهدافات الإسرائيلية لم تكن مجرد تدمير مادي للمباني، بل تجاوزت ذلك لتشكل خسارة كبيرة لإرث حضاري يمتد عبر آلاف السنين، خاصة فيما يتعلق بالمواقع الأثرية والدينية في لبنان، التي تحمل في طياتها قصصاً تاريخية وثقافية عريقة.
بسبب القصف الاسرائلي أو نتيجة للاهتزازات الناتجة عن الانفجارات تنوعت الأضرار التي لحقت بالمواقع الأثرية بين تدمير مباشر واضرار غير مباشرة .
من أبرز الأمثلة على هذه الأضرار قبة دورس الأثرية المشادة من حجارة وأعمدة قلعة بعلبك، حيث تصدعت وانهار قسم من تاجها العلوي. وهذه القبة التي تعلو ثمانية أعمدة من الغرانيت الأحمر.هي في موقع أثري يعود للقرن الثالث عشر.
كذلك استهدفت الغارات الإسرائيلية مواقع على بعد حوالي 500 إلى 700 متر من قلعة بعلبك ، مما أثر سلبياً على الموقع الأثري سواء من الدخان الأسود الذي غطى الحجارة، أو من قوة الانفجارات المتزامنة مع اختراق جدار الصوت بشكل متكرر يوميا الني يمكن أن تؤثر ارتجاجاتها على الموقع حتى لو لم يتم استهدافه بشكل مباشر. وتجدر الإشارة إلى أن «قلعة بعلبك الأثرية» مصنفة من قبل منظمة اليونسكو ضمن التراث العالمي، وبالتالي يشمل ذلك كل ملحقاتها في المواقع الأثرية والتاريخية في مدينة بعلبك.التي عرفت بـ”مدينة الشمس” في العهد الهلنستي، كما تعتبر بعلبك بمبانيها الضخمة من أهم آثار الهندسة الرومانية في أوج ذروة الإمبراطورية
ومن المواقع الأثرية المهددة بفعل الارتجاجات المستمرة جراء الحرب، إذا لم تحظَ بحماية دولية، قلعة تبنين، قلعة ميس (أنصار)، وقلعة الشقيف التي سبق واستهدفتها إسرائيل عام 1982 بذريعة أنها كانت قاعدة عسكرية للمقاومة الفلسطينية.
إلى جانب هذه المواقع في الجنوب والبقاع، تم استهداف ستة مراكز أثرية دينية، وبيوت تراثية مصنفة دولياً، وسبعة مساجد، وكنيسة، وخمسة مباني بلديات أثرية.
أما المواقع الدينية التي كانت عرضة للاستهداف منذ الأول من أكتوبر 2024 فهي:
- مسجد ومقام النبي بنيامين بن يعقوب في بلدة محيبيب، الذي تم تدميره بالكامل مع الحي السكني المجاور له. يعود تاريخ بنائه لأكثر من 2000 عام، ويقع على تلة مرتفعة. يتألف من غرفة للضريح وأخرى للصلاة، ويتميز بأسلوب هندسي تقليدي، يضم قناطر وعقوداً وزُين بقبة عالية، وفيه مئذنة حجرية في الجهة الشمالية الشرقية. وفي عام 1948 سرقت إسرائيل من داخله صخرة تحمل كتابة عبرية، وفي عام 2006 تم ترميمه بعناية مع مراعاة الجماليات الهندسية.
- آثار صور التي تهددها الغارات الإسرائيلية المتواصلة، حيث تستهدف المدينة منذ بدء العدوان، مما يعرض آثارها المدرجة ضمن لائحة التراث العالمي للاهتزازات وخطر الانهيار. وتعود آثار صور لحقب تاريخية مختلفة تمتد من 5000 سنة قبل الميلاد حتى القرن التاسع عشر.
- سوق النبطية التجاري الذي دمرته إسرائيل بشكل كامل، وحولته إلى رماد. يُعد هذا السوق جزءاً من الهوية التراثية والثقافية والاجتماعية لمدينة النبطية، ويعود بناؤه لأكثر من مائة عام.
بالإضافة إلى ذلك، تعرضت العديد من المباني التراثية في القرى والبلدات الجنوبية والبقاعية للاستهداف، وهي مبانٍ ذات طابع تاريخي وتعود لعقود عديدة.
تعد المواقع الأثرية والدينية في لبنان جزءًا لا يتجزأ من الهوية اللبنانية. هذه المواقع تحكي قصصًا عن حضارات قديمة، وتشكل عنصرًا مهمًا في الفهم التاريخي وتدمير هذه المواقع يسبب فقدانًا لا يعوض للأجيال الحالية والمستقبلية.
ان ما تقوم به اسرائيل باستهدافها الاماكن الاثرية والتراثية والدينيية ليس امر تفرضه ظروف الحرب بل يرتبط ارتباطا وثيقا بالفكر. الصهيون و بمفهوم “أرض الميعاد”. و بقراءة خاصة للتاريخ والجغرافيا. ندرك تماما المسعى الاسرائيلي لتغيير معالم الأرض اذ أنه يتجاوز البعد السياسي والعسكري ليرتبط بتفسير ديني يقوم على فكرة “الأرض النظيفة”. وفق هذا المنظور، يتم السعي لإعادة تشكيل المشهد الجغرافي والتاريخي بما يتوافق مع هذه الرؤية، حتى لو تطلب ذلك محو الشواهد التاريخية التي تثبت وجود وتعاقب حضارات وثقافات مختلفة على هذه الأرض عبر آلاف السنين.
هذا التوظيف الديني للتاريخ يتجلى في محاولات تغيير المعالم، وطمس الآثار التي لا تتوافق مع العقيدة الاسرائيلة، فالمواقع الأثرية والمعالم التاريخية ليست مجرد شواهد حجرية، بل هي أدلة مادية على الارث الثقافي والحضاري عبر العصور.
إن محاولات طمس الهوية والتراث تمثل تهديداً خطيراً ليس فقط للشعوب المستهدفة، بل للإنسانية جمعاء. فالتنوع الثقافي هو ثروة عالمية يجب الحفاظ عليها وحمايتها فاستهداف الأماكن الأثرية المصنفة عالمياً يعد انتهاكاً صارخاً لكل القوانين الدولية وقرارات اليونسكو التي تنص على تحييد الأماكن التراثية والآثار والمراكز الثقافية والاجتماعية والمدنية كما انه يمثل جريمة ضد الإنسانية والحضارة