
كتب ابراهيم بيرم:
اخيرا ترجل حبيب صادق عن صهوة نضاله الجموح الممتد لنحو سبعة عقود خلت .
غاب المناضل اليساري العلم ، والمثقف والشاعر والمتماهي مع قضايا المتعبين والمعذبين في الارض الى حد الاندماج .
غاب ابن الجنوب الاتي الى عالم اليسار من بيت فقه ديني متجذر، ناذرا نفسه لقضية هذا الحيز الجغرافي الذي تجاوز حدوده ليمسي قضية وطنية وثورية ملتصقة بقضية فلسطين . فصنع من محطة المجلس الثقافي لللبنان الجنوبي من جبل عامل ذي الجغرافيا المحدودة ، قضية وكيانا وعالما.

غاب ” عزيز” الجميع بلا استثناء، غيبته الاخيرة ومضى بعد غيبة صغرى امتدت نحو ست سنوات كان فيها رهين عجزه ومرضه، وما بينهما رهين خيباته المرة بعدما استشعر بأن زمن المناضلين الانقياء الاتقياء اوشك ان يطوي حقائبه ويرحل حاملا معه الاماني المكسورة والرهانات المهزومة .

من في لبنان كله لا يذكر رمز المناضلين حبيب الذي امتشق باكرا جدا سيف التحدي والمواجهة مع الاقطاع السياسي المستنفر بعدما وجد نفسه في الزاوية، فترشح في انتخابات عام 1972 ( اخر انتخابات جرت قبل اشتعال فتيل الحرب الاهلية ) محاصرا وفي وجه رئيس مجلس النواب الراحل كامل الاسعد سليل العائلة السياسية الاقطاعية العريق ، الذي كان تسنده منظومة سياسية عميقة تقاطعت في ذلك الزمن لتشكل حائط صد في وجه موجة التغيير العاتية التي كان يقودها نخبة من اليساريين والتقدميين التواقين الى تطوير النظام اللبناني الذي كبلته اطماع الحكام ومخاوفهم .
في تلك الانتخابات كان اليسار اللبناني ايضا في ذروة صعوده وامتداده، خصوصا بعدما اجهضت المنظومة الحاكمة نفسها تجربة رائدة وواعدة في السعي لتطوير النظام واخراجه من قيوده تمثلت في ما عرف لاحقا بحكومة الشباب التي تراسها صائب سلام وضمت يومها نخبة من الشخصيات العاقلة والموضوعية ومنهم اميل بيطار وغسان تويني والياس سابا ونجيب ابو حيدر وحسن عواضة . ووفق المؤرخ والباحث المعروف فواز طرابلسي فان ” الطبقة الحاكمة ” مثلت انذاك بتلك التجربة المضيئة وشنعت بها اذا اقالت اربعة من هؤلاء تدريجاً ووضعت الخامس ( الياس سابا امام خيارين احلاهما مر، فاما الاستقالة القسرية او الرجوع عن مشروع تطويري كان اعده فاختار الثاني .

من تلك التجربة الحافلة بالدروس والعبر اقتنع المطالبون بالتغيير والتطوير بأن لا امل لهم في ذلك، فجنحوا نحو شعار المطالبة بالاطاحة بكل هذه التركيبة .
اوشك حبيب على الفوز في تلك الانتخابات والفارق في الاصوات لم يكن كبيراً وقيل انه بلغ عتبة الفوز لكن النظام لعب وتلاعب بصناديق الاقتراع فامن له الرسوب وامن لخصمه نجاحا مشكوكا به .
لكن نتائج تلك التجربة ايضا والتي اظهرت في محصلتها تعاطفا غير مسبوق مع كل مرشحي اليسار في كل المناطق، ما امن دخول نحو سبعة منهم الى المجلس النيابي ( علي الخليل وزاهر الخطيب وعبد المجيد الرافعي وميشال معلولي ..) قد اقنعت حبيب ورفاقه بالمضي ، فشكل مع نخب يسارية وتقدمية من كل الطوائف حالة جماهيرية واعدة وراعدة وطموحة شكلت للطبقة الحاكمة جرس انذار بأن موجة التغيير لم تعد بعيدة ما لم يتداركوا الامر .
بعدها اختار حبيب من المجلس الثقافي للبنان الجنوبي منصة ومحطة ليستكمل عبره في العاصمة مشروعه المزدوج :
– التاسيس ل” بؤر ” نضالية مسلحة بزوادة وعي متكامل رافدا من روافد مجرى التغيير الاتي بلا ريب .
– التأسيس لثقافة جنوبية تسند الجنوبيين الذين كانوا يومها ( مطالع السبعينات ) قد بدأوا يواجهون تغولا اسرائيليا عبر اعتداءات يومية على قرى الجنوب وبلداته والحاق الاذى والخراب بسكانها . خصوصا بعد ان تركهم النظام اللبناني المتشظي بخياراته وهويته نهبة للاحتلال الاسرائيلي.

في اول انتخابات جرت بعد اتفاق الطائف عام 1992 عبر حبيب الى المجلس النيابي على متن لائحة حركة امل الباحثة حينها عن شخصيات جنوبية لا يرقى الشك الى وطنتيها وتاريخها . فخال حبيب المناضل النقي انه ” حقق ” ثأره التاريخي مع التركيبة الحاكمة التي قارعته وقارعها طويلا، معتقدا ان زمنها قد ولى وظلمها قد افل الى غير رجعة ، لكنه سرعان ما استشعر ان النظام الطائفي قد نجح في تجديد نفسه تحت مظلة ذلك الاتفاق وانه معه ليس له ولامثاله مكان ، فاثر الانكفاء ساعيا الى تشكيل حالة مضادة ومعارضة ، وجدت التفافا حولها في انتخابات عام 1996 التي خاضها مع ثلة من رجال انقياء وفدائيين . لكن هذه الحالة ما لبثت ان استشعرت بحاجز جديد يصدمها ذكرها بحاجز مطالع السبعينيات ايام كان الحكم مسشتعرا بمخاطرعلى وجودها فما كان منها الا ان رفعت من منسوب مقاومتها ومواجهتها.
في عام 2004 وجد حبيب نفسه في حومة حراك شارك في قيادته يساريون قدامى نسجوا ضمنا تحالفا جبهويا مع المعادين للوجود السوري المتحكم بقرار البلد فرفعوا شعار طرده مهمة اولى لاعادة البحث عن ما يطور النظام ، وسرعان ما اتاهم الدعم المطلق عندما اغتيل الرئيس الشهيد رفيق الحريري في شباط عام 2004 فكانت ” انتفاضة ” 14 اذار ” الشهيرة .

لكن حبيب وبعض من مثله ما لبثوا ان احسوا انهم ضحية ، ما سمي الاتفاق الرباعي الذي تحالف فيه تيار المستقبل والحزب التقدمي الاشتراكي وحركة امل وحزب الله فاكتسحوا مجلس النواب عام 2005 ، وتيقنوا بان ثمة من استخدمهم لمارب خاصة وتركهم على قارعة الانتظار وضحية الحسابات والمصالح الفئوية الضيقة .
ومن يومه بدا حبيب رحلة انكفائه الاخيرة وذهب ليدون مذكراته في كتب اسماه ” رحلة الايام ” غلب عليه التشاؤم والاماني المنكسرة .
رحل حبيب لكنه سيظل في وجدان المناضلين الانقياء المثال والنبراس عسى يستعاد زمن كان فيه حبيب ومعه حالة ثورية تواجه .