كتب جورج حايك: يزداد الكلام عن الفيدرالية في لبنان وخصوصاً لدى القوى والنخب السياسية المسيحية، وذلك بسبب شعور المسيحيين بغياب الدولة وهيمنة “حزب الله” على القرار الرسمي، مما ضرب مبدأ المساواة بين اللبنانيين. ولعل هذا الكلام المتزايد عن الفيدرالية دفع الإعلامي مارسيل غانم إلى تقديم حلقتين من برنامج “صار الوقت” عن الطروحات الفيدرالية، تخلله جدل بين من يتمسّك باتفاق الطائف والدولة المركزية من جهة والمدافعين عن مشروع الفيدرالية من جهة أخرى.
لكن بين الكلام والواقع هوة كبيرة، وعنوان الهوّة الأساسي اليوم هو “حزب الله” الذي لا يطبّق اتفاق الطائف، إنما ينفّذ المشروع الفيدرالي في مناطق نفوذه ويرفض البحث في الفيدرالية مع المكوّنات الأخرى.
وأبرز موقف لـ”الحزب” في ما يتعلق بالفيدرالية كان عبر أمينه العام حسن نصرالله الذي قال: “يجب على الناس أن تعيش مع بعضها فالبلد لا يتحمل فيدرالية أو تقسيم والتجربة التاريخية تقول ذلك”، أما بقية مواقف الحزب فهي تدور في هذا الفلك.
قبل البحث في خلفيّة رفض “الحزب” للفيدرالية، يجدر بنا أن نطرح السؤال: كيف يطبّق “الحزب” الفيدرالية؟
بكل بساطة، انشأ “الحزب” دورة اقتصادية مستقلة وإدارة ذاتية، وبنى جيشاً من 100 الف مقاتل، ويعقد تحالفاً استراتيجياً مع ايران، ويستخدم حق الفيتو لتعطيل الدولة المركزية وحكوماتها ومؤسساتها. ولم يكتف بذلك، إنما ضرب النظام المصرفي والمالي والاقتصادي والقضائي، وعزل الديبلوماسية اللبنانية عن المجتمعين العربي والدولي، وعلّق تنفيذ القرارات الدولية. وأخيراً قام بعض مسؤولية بتخيير اللبنانيين بين الخضوع لمشروع المقاومة أو الرحيل!
لا بد من الاعتراف بأن لمناطق الشيعة في لبنان التي يمثلها الثنائي الشيعي استقلالها الأمني والاجتماعي والمالي. وما كشفته واقعة قرصنة بيانات مؤسسة “القرض الحسن” يدفع إلى الذهول، ذاك أن الحزب ذهب في انعزاله ببيئته عن لبنان إلى ما بعد الفدرالية، خصوصاً أن الأخيرة تترك الوظائف السيادية للحكومة المركزية، أما الحزب فقد سطا على السيادة في الدولة المركزية، وانعزل بأمنه واقتصاده في فدراليته، وثمة مؤشرات إلى سعيه للاستقلال بقطاعات أخرى أيضاً.
أما في خلفية رفض “حزب الله” للفيدرالية رغم أنه يمعن في تطبيقها، هناك كلام ظاهر استعان فيه “الحزب” بخطاب يساري وبمفوهين من هذا اليسار البائد انطوت خصومتهم للفدرالية على بعد مذهبي، ذاك أن الدعوة إليها تصدر من أوساط مسيحية، يصفها “الحزب” بـ”التقسيمية والانعزالية”.
وهناك خلفيّة غير معلنة، ينطلق فيها “الحزب” من معادلة “ما لي هو لي وحدي، وما لكم هو لي ولكم”، وهذا يعكس جوعاً ونهماً لإبتلاع لبنان بأكمله، وجعله ساحات من ساحات المواجهة التي تقودها إيران، وبالتالي سيحارب الفيدرالية بكل قواه، بل سيسعى إلى تدمير أي طرح من هذا النوع في مهده. وإذا تعمقنا أكثر في هذه الخلفية نجد أن “الحزب” ان الفيدرالية ستجعله في عزلة داخلية، ما يعني أن أي طرف يواجهه سيستفرد به ويحاصره، ولن يعود “الحزب” قادراً على استخدام المكوّنات الأخرى كرهائن! وهذا ما سيفرض عليه فرض واقع ديمغرافي وجغرافي واقتصادي معين ويحصر انتشاره الجغرافي الاستراتيجي، وقد يبدأ بالتآكل، أي يصبح الصراع شيعياً-شيعياً وتكون الضربة القاضية له.
أما النقطة الأخطر على “الحزب” فهي أنه سيصبح بمقدور الكانتونات الأخرى أن تسيطر على أقاليمها ومناطقها التي ستعمل للتحلل تدريجياً من أي قيود مركزية وستنعم هذه المجتمعات بالحريات والإزدهار والانفتاح على الدول الأجنبية، فيما يفرض “الحزب” على مناطقه سياسة محور الممانعة الذي سيعزله عن المجتمع الدولي، وربما يصبح أكثر الكانتونات فقراً وتأخراً!
في المقابل، يبدو ان اللبنانيّين -مسيحيّين ومسلمين ودروزاً- ضاقوا ذرعاً بـ”حزب الله” ويدينون يوميّاً خياراته وأداءه ويعتبرونه، عن حقّ أو عن باطل، مسؤولاً عن جميع مصائبهم الجارية. هناك شعور من القرف ينتشر في وجدان المجتمع اللبنانيّ. يكفي أن نسأل مؤسّسات الإحصاء والقنصليّات العاملة في لبنان، لنكتشف أنَّ طالبي الهجرة ينتمون إلى جميع الطوائف والفئات والأعمار والمستويات الاجتماعيّة والماليّة المختلفة. ولا بد من المصارحة بأن الرأي العام المسيحي خصوصاً صار في مناخ يرفض التعايش مع سطوة “حزب الله”.
لذلك، تعلو أصوات المطالبين بالفيدرالية، ويؤكد أنصارها على ما يسمونه “السيادة أولًا” أو السيادة والحياد كأولوية تأسيسية وطنية لإنقاذ لبنان، من بين أمور أخرى، من العنف السياسي والاستقطاب الطائفي والفساد والتدخل الخارجي والسلاح غير الشرعي، معتبرين أن الوحدة الوطنية والتعايش لن يشكلا عقبة أمام تأسيس نظام جديد يمنع الهيمنة ويؤمن العدالة الاجتماعية والتنمية المتوازنة والاستقرار الاقتصادي. وهم يقترحون دستوراً عرقياً جغرافياً، مع ديباجة مقتطفة بالكامل من مقدمة الدستور السويسري.
يعتبر الفيدراليون أن المناطق المختلطة لا تشكل عائقًا أمام الفيدرالية بما أن الكانتونات الطائفية المقترحة متجانسة إلى حد ما ويمكن إنشاء كانتونات فرعية لحماية الأقليات.
لكن “حزب الله” يعتبر تزايد الكلام عن الفيدرالية ليس إلا ترفاً فكرياً، لا يمكن ترجمته إلى واقع، وربما يستند “الحزب” في إعتقاده إلى عدم وجود اجماع لبناني على مشروع الفيدرالية، فأكثرية القوى السياسية تفضّل تطبيق اتفاق الطائف، كما ان عواصم القرار لا تتبنى مثل هذه المشاريع. في النهاية، لا يمكن تطبيق الفيدرالية من خلال الأصوات المسيحية، والمارونية بشكل أساسي، لوحدها.
وربما يكون كلام مسؤول سياسي مخضرم دقيقاً عندما خَلُصَ إلى طريقين لتطبيق الفيدرالية لا ثالث لهما في ظلّ تعنّت “الحزب”: الأول هو حصول حرب أهلية تؤدي إلى فرز المناطق، مما سيسمح بتسوية قد تؤدي إلى القبول بالفيدرالية، الثاني سيطرة دولة كبرى على لبنان عسكرياً كما كانت فرنسا سابقاً تمهّد لتطبيق النظام الفيدرالي كما فعلت عندما اعلنت دولة لبنان الكبير عام 1920.
بالنسبة إلى الفيدراليين، يعتبرون أن مشروع “حزب الله” خطير جداً، وهو لا يتعلق بالسيطرة على الدولة فحسب، بل هو مشروع تطهير عرقي طويل الأمد يهدف إلى طرد السنّة والمسيحيين والدروز وجعل وجودهم في لبنان رمزيًا. وأضاف أن السبيل الوحيد لمواجهة هذا المشروع هو إحداث فصل جغرافي عن “الحزب”، وإلا سيفقد لبنان تعدديته التي يضمنها المشروع الفيدرالي من خلال احترام خصوصية مكوّناته.