كتب باسل عيد: في تسعينات القرن الماضي، عندما أتى المطرب المصري عمرو دياب الى لبنان، للمرة الأولى بعد نهاية الحرب الأهلية، لإحياء حفل لليلة واحدة، حينها قال الرئيس المصري الراحل حسني مبارك عبارة معبّرة عن الواقع المستغرب للبنان وشعبه آنذاك، إذ قال باللهجة المصرية المحببة على قلوب العرب: “بيقولوا بلبنان في حرب ومجاعة ومن كم يوم عيل صغير (عمرو دياب) راح عمل حفلة هناك ورجع بمليون جنيه”.
إستغراب مبارك تزامن حينها مع زيارة قام بها الرئيس الشهيد رفيق الحريري الى مصر، طالباً من الرئيس المصري مساهمة بلاده في حل الأزمة الاقتصادية في لبنان، الخارج حديثاً من حرب أهلية ضروس ودمار أتى على البشر والحجر.
واليوم، وبعد حوالى 30 عاماً، تتكرر الواقعة، بفارق أن لبنان الآن هو في زمن السلم لا الحرب، إلا أن الدمار اللاحق به حاليا إقتصادي مالي إجتماعي، والفقر يسكن زوايا البيوت وحنايا الأسر (على الأقل هذا ما يشاع).
سيأتي دياب الى بيروت في 19 آب الجاري ليحيي حفلاً في أسواق بيروت، بأجر سيتقاضاه ويبلغ 750 ألف دولار أميركي. هذا الرقم، في بلد بات فيه الحد الأدنى للأجور لا يتعدى ال40 دولارا، وأعلى راتب في القطاع العام ليس أكثر من 250، يعد بالفعل مبلغاً هائلاً.
إلا أن الصدمة الكبرى كانت نفاد بطاقات الحفل من الفئة الأولى، والتي يبلغ سعرها 300$، في النصف الساعة الأولى بعد طرحها من قبل الشركة المنظمة، مما اضطر المنظمين لزيادة أعداد المقاعد من هذه الفئة. وما أن طرحت البطاقات، نفدت أيضاً فور طرحها.
ومع نفاد بطاقات ال 300 – 150 دولاراً، اضطرت الشركة لطرح بطاقات بسعر 90$ تباع أونلاين، على أن يشاهد من يشترونها الحفل وقوفاً، وهي بدورها نفدت أيضاً.
وبعد، هل يكرر الرئيس عبد الفتاح السيسي، أقله في سره وليس بالعلن، ما قاله سلفه مبارك؟ هل سيتساءل، كما عمرو دياب نفسه، عن مدى صحة وحقيقة أن لبنان بلد منهار؟
ثمة تناقضات بالغة في هذا البلد. شعب بمجمله حجزت ودائعه وطار جنى عمره في المصارف، وانهارت عملته وتدنت رواتبه (تحديدا من يقبضون بالليرة) الى أدنى مستوياتها. بلد هاجر شبابه وطارت أدمغته الى الخارج وأقفلت معظم مؤسساته وأفلست، وبالرغم من هذا كله، السواد الأعظم يعيش وكأن لا أزمة ولا فقر ولا انهيار ولا زلزال مالي ضرب لبنان وجعله على رأس قائمة البلدان المدمرة اقتصاديا.
نحن لا نتحدث عن حفل عمرو دياب فحسب، (فالأخ تامر حسني جايي عالطريق بعد كم يوم) مع مئات آلاف أخرى لجيبه، وبالتأكيد نفاد بطاقات حفله منذ اللحظات الأولى لطرحها، إلى جانب هاني شاكر الذي يحيي حفلات في أحد المنتجعات في شمال لبنان.
كل هذا يطرح أطناناً من الأسئلة المحقة، نسبة الى المشاهدات اليومية منذ بدء (أزمتنا) في العام 2019 حتى يومنا هذا: هل فعلاً نحن فقراء في لبنان؟
فلندع موضوع الحفلات الغنائية جانباً، إلا أن حركة الأسواق والمطاعم والحانات والسهرات والرحلات والكماليات والرحلات السياحية، الداخلية والخارجية، لا تشي بهذا الأمر، بل على العكس تماماً. ثمة من يعتبر بأن كثيراً من اللبنانيين باتوا أكثر انفراجا على هذا الصعيد من بعد تلك الأزمة، لأسباب مجهولة وتدعو للحيرة والريبة في آن.
قد تلعب تحويلات المغتربين، والتي تبلغ 6.5 مليارات دولار سنويا، دوراً بارزاً في إراحة الكثير من شرائح الشعب اللبناني، لكن ليس الى درجة البذخ الحاصل. وثمة قطبة مخفية، يجب على جزء كبير من اللبنانيين، (حتى أولئك في المناطق الفقيرة) الإفصاح عنها، لكشف سر طمأنينتهم وراحتهم النفسية، بالرغم من أن كل ما يملكونه قد تبخر الى غير رجعة.