كتبت ناديا شريم لـ “أخباركم – أخبارنا”
بعد ساعات من التهديدات الإسرائيلية لمدينة بعلبك وقرى شمسطار، دورس، وعين برضاي، بدت المدينة ومحيطها فارغة إلا من أصوات الصواريخ الاسرائيلية التي تنهال عليها من كل حدب وصوب، مخلفة وراءها الكثير من الخراب والدمار والموت.
لكن اللافت والمؤسف، أن الخارطة التي نشرتها إسرائيل للمناطق التي ستتعرض للقصف، تشمل أقدم وأهم معلم تاريخي على المتوسط، وهو قلعة بعلبك التي صمدت على مر التاريخ على الرغم من كل ما تعرضت له… فما هو تاريخ هذه القلعة الصامدة في وجه الأزمنة، والتي بقيت (حارسة المدينة) رغم كل النكبات؟ وما هي معالمها المميزة؟
مجمّع أثري
قلعة بعلبك عبارة عن مجمّع أثري كبير يحتوي على أنقاض مدينة رومانيّة قديمة. تقع القلعة في منطقة البقاع الواسعة، والمعروفة بوادي البقاع. ترتفع عن الأرض مسافة مقدارها 1,130 متراً، وتبعد من الجهة الشرقيّة إلى الشمال الشرقي من بيروت مسافة 80 كيلومتراً. تُعرف مدينة بعلبك بمدينة الشمس، وفي عام 1984م تمَّ ضم المنطقة الأثريّة إلى قائمة التراث العالميّ للأونيسكو.

أصبحت بعلبك الحجر الأساس للحضارات القديمة، وتتمثل آثارها على هيئة أعجوبة أثرية، إذ تحتوي على آثار شاهقة، وأعمدة مُدهشة. وقد كانت بعلبك مكاناً مُقدساً، ومركزاً للعبادة في بلاد ما بين النهرين. فحتى عام 150 قبل الميلاد كان الموقع معبداً للقبائل الفينيقيّة وبعل، ثمَّ جُلب المعبد إلى العصر المسيحيّ بفعل تأثير قسطنطين الكبير على الإمبراطوريّة الرومانيّة.
لكن بعد نقل المعبد إلى الإمبراطوريّة العثمانية، بدأ اهمال وتراجع حالة هذه الأطلال، بعدما تمَّ التخلي عن هذه الآثار، وتُركت في حالة مذرية من الخراب والدمار. فقد شهد الموقع على تدمير معالمه بسبب العواصف والقوى الطبيعيّة حتى عام 1898. لكن بعد ذلك قام الإمبراطور الألماني فيلهلم الثاني بزيارة الموقع، وكان رائداً في استعادة بعلبك والمحافظة عليها. وفي الوقت الحاضر، تُعتبر بعلبك واحدة من أكثر الكنوز التاريخيّة في لبنان، حيث تزورها أعداد كبيرة من السياح من مختلف أنحاء العالم.
المعالم الأثرية
تضم قلعة بعلبك عدداً كبيراً من المعالم الأثرية، أبرزها:
- معبد بعل مرقد جوبيتير: يُعرف هذا المعبد بالقلعة، حيث يقع إلى جانبه معبد دير القلعة (معبد دير مار حنا)، ويُعتبر المعبد من أهم الآثار المُكتشفة في منطقة بيت مري. تتميّز حجارته بالضخامة التي تجعلها شبيهة بأعمدة قلعة بعلبك وحجارتها.
- معبد باخوس: معبد أصغر حجماً من معبد جوبيتير، يعود تاريخ بنائه إلى القرن الثاني. لعل أهم ما يُميز هذا المعبد، قدرته في الحفاظ على معالمه رغم مرور الزمن. يتألف من بوابة عملاقة يصل ارتفاعها إلى 13 متراً، وعرضها حوالى 6 أمتار، ويقع على منصة يصل ارتفاعها إلى 5 أمتار.
- معبد فينوس: يقع خارج القلعة وداخل الحرم القدسي، وتميزت زخرفته بصفين من الأعمدة.
وللأهمية التاريخية والثقافية لأثار وهياكل بعلبك، قامت المديرية العامة للآثار في لبنان، بالتعاون مع المعهد الألماني للآثار وشركة “فلاي أوفر زون “الأميركية المتخصصة في تصميم الجولات الافتراضية، بإطلاق تطبيق “إعادة إحياء بعلبك: المعابد”. يعتبر التطبيق الأول من نوعه ضمن سلسلة تطبيقات ستقدم جولات افتراضية ثلاثية الأبعاد في المواقع الأثرية بمدينة بعلبك، وذلك في إطار مشروع لإعادة إحياء المدينة.
يعيد كثيرون الفضل في تعميم عظمة هياكل بعلبك في أوروبا إلى المعماري الإيرلندي روبرت وود (1717 – 1771)، وزميله جايمس داوكينز (1722 – 1757)، إثر زيارتهما إليها بعدما زارا تدمر (بالميرا) سنة 1751، وأصدرا على الأثر كتابهما “أطلال بعلبك أو هليوبوليس في سوريا المجوّفة”، في لندن سنة 1757.
يقول وود: “إن أطلال بعلبك، إذا ما قارنّاها بالمدن الأثرية التي زرناها في إيطاليا واليونان ومصر وبلدان آسيوية أخرى، تبدو المشروع المعماري الأكثر جرأة حتى اليوم”.
وقد جال هذا الكتاب في المدن الأوروبية ودفع بالكثير من المغامرين إلى زيارة القلعة، لا سيما وأن المهندسين زوداه برسوم معمارية بديعة، منها رسم لقلعة بعلبك ذات الأعمدة التسعة. نعم، كانت تسعة يوم زاراها، واستمرت كذلك لمئات السنين. إلا أنه وبعد صدور هذا الكتاب بعامين، فجر 19 تشرين الأول/ أكتوبر 1759، اجتاح زلزال مدمّر سهل البقاع، فأطاح بثلاثة من أعمدة القلعة. وقد أفرد عيسى إسكندر المعلوف لهذا الزلزال المدمر الذي أزهق عدداً كبيراً من الأرواح وهدم بنياناً عديدة من بعلبك إلى دمشق، صفحات من كتابه الفريد “تاريخ البقاع وسوريا المجوّفة” (بيروت، دار الفارابي، 2018)، بتقديم من فواز طرابلسي.
ويعتقد باحثون أن قوة الزلزال آنذاك، زادت عن سبع درجات على مقياس ريختر، مما أحدث خراباً هائلاً أطاح بعدد من الهياكل والأعمدة.

تثير إعجاب كل زائر
حتى زماننا الحاضر، تستمر الخلافات حول طريقة بناء صروح بعلبك، علماً أنها أضخم مجمّع تاريخي في منطقة البحر المتوسط. هناك فرضيات مختلفة تتعلق بكيفية بناء هذه الهياكل الفريدة، من أبسط الأفكار إلى أكثر الأجهزة الهندسية تعقيداً.
رغم تعرض بعلبك للتخريب طيلة قرون طويلة، سواء علي أيدي الأباطرة، أو لأسباب طبيعية كالزلازل، إلا إنها ظلت تستوقف الرحالة، وتجذب الأثريين، وتغذي بأطلالها الأساطير، وتثير إعجاب كل زائر. فعندما زارها الإمبراطور الألماني هليوم الثاني، وشاهد الأضرار التي أصابت هياكلها الرومانية، أرسل وفداً من العلماء ليقوموا بعمليات الترميم والحفر، وذلك خلال عامي 1900 و1904، حيث كشف خلالها الأثريون عن الأجزاء الرئيسية للمعابد الثلاثة. في العام 1930، تابع وفد أثري فرنسي أعمال الحفر في معبد جوبيتير، ثم تسلّم الأثريون اللبنانيون مهام التنقيب والدراسات الحفرية، بالاشتراك مع البعثات الألمانية منذ عام 1943، حتى بدأت الحرب اللبنانية عام 1975.
تفسير التسمية
سميّت المدينة من قبل الكنعانيين الفينيقيين قبل آلاف السنين، إذ ذكرت في التوراة بإسم “بعلبق”. وقد ذكر المؤرخ أنيس فريحة في كتابه “أسماء المدن والقرى اللبنانية”، أن اسم المدينة مصدره كلمتا “بعل” وتعني “مالك” أو “سيّد” أو “ربّ”؛ وكلمة “بق” وتعني البقاع، رافضاً أن يكون إسمها إسم إله كما يدعي البعض لعدم وجوده في اللغات السامية، فيكون معناها “إله وادي البقاع”. وهناك من نسب إسمها إلى “مدينة الإله بعل”. وقد أطلق على المدينة أيام الرومان إسم “هيليوبولس” (أي مدينة الشمس) عند الرومان، وتحديداً بإسم “مستعمرة جوليا أغوسطا مدينة الشمس”، كما سمّاها الأمويون.
كما صدرت دراسة لتاريخ بعلبك في العهد الروماني ننهلها من كتب المؤرخين الرومان واليهود، أمثال سترابو (Strabo) ويوسيفوس (Josephus) اليهودي. وهناك الكتابات والنقوش التي لا تزال ماثلة إلى اليوم على قواعد الأعمدة، وحجارة المعابد في هياكل بعلبك، وفي القسم الثالث ولعله الأهم – لأنه أوضح غوامض المصدرين السابقين – هو النميَّات (المسكوكات) التي ضربت في بعلبك وحملت أسماء الأباطرة وصورهم، ونقوش الهياكل.
موقع مميّز
تقع بعلبك على مفترق عدد من طرق القوافل القديمة التي كانت تصل الساحل المتوسطي بالبر الشامي، وشمال سوريا بفلسطين. وقد استفادت عبر تاريخها الطويل من هذا الموقع المميز، لتصبح محطة تجارية مهمة ومحجاً دينياً مرموقاً. ونظراً إلى موقعها الجغرافي الاستراتيجي وأهميّتها الزراعية، أصبحت في عام 47 ق.م. مستعمرة رومانية بأمر من يوليوس قيصر، والموقع المختار لبناء أكبر الهياكل الرومانية كمعبد باخوس، والتي عكست ثروة وقوة الإمبراطورية الرومانية. وقد استمرت عمليات البناء أكثر من مئتي عام، أشرف عليها اباطرة رومانيون. ومن أجل الوصول إلى هذه الهياكل، لا بد للزائر من ان يمر أولاً بالأروقة الرومانية الضخمة، وبساحتين تحيط بهما الأعمدة المهيبة.
في نهاية القرن الثالث، كانت الإمبراطورية الرومانية على حافة الانهيار حيث تلاشى السلام الذي وفر الإزدهار في القرون السابقة. كما اشتعلت الفتن الداخلية وكثر الطامعون بالعرش، مما حمل بعض فرق الجيش على تنصيب قسطنطين إمبراطوراً. وفي سنة 330 م. بعدما نجح في توحيد الإمبراطورية، نقل عاصمته من روما إلى بيزنطية التي أعاد بناءها ومنحها إسمه، كما منع في عاصمته الجديدة بناء المعابد الوثنية، قبل أن يصدر أمراً بإغلاق المعبد الكبير في هليوبوليس (بعلبك).
