
كتب ميشال ن. أبو نجم: منذ أن تسرّب الأسبوع الماضي إخفاء وزير المال لتقرير التدقيق الجنائي في حسابات مصرف لبنان، حتى عاد التوثب إلى سلوك كوادر التيار الوطني الحر ونوابه وقيادته، وكأنهم رصدوا هدفاً محكماً وتأهبوا للإنقضاض عليه. ذلك أن ما كان مطلبهم وقضية الرئيس ميشال عون منذ عودته من المنفى، بات صداعاً يؤرق أركان منظومة التسعينات التي يقاتلونها، حتى وإن تم التوصل معها إلى هدنات متقطعة ضمن مؤسسات النظام.
ولم يكن ينقص توثبهم هذا إلا أن يقول الصحافي الإقتصادي منير يونس المعروف بمواجهته المنظومة المصرفية، إن البعض يرفض ويتنصل من التدقيق الجنائي، لا لشيء إلا لأنه التصق بالعونيين، وباتت صفة من يؤيده أنه “عوني”!
إنها أبعد من قصة “أوكسيجين” للتيار الذي واجه أصعب التحديات منذ اندلاع حراك “17 تشرين”. صُبت كل الإتهامات عليه، ولاحقته حتى الإنتخابات الأخيرة. وكان انتهاء ولاية الرئيس عون من بعبدا، مناسبةً لكي تنفضّ عنه القوى المتحاملة وضوضاء الدعاية بماكيناتها الضخمة، والتي أساساً بدأت تتراجع وتنحسر بإيماءة خارجية على أثر التوصل إلى اتفاق ترسيم الحدود، وبدء عصر تحجيم القوى المدعومة خارجياً بعدما استنفدت وظيفتها.
إن الذهول الذي أصاب التيار الوطني الحر فور بدء لحظة “17 تشرين”، لم يأتِ من عدم توقع بقدر ما نتج عن صراع في صلب ذاتية “التيار”. بعدما كانوا الممسكين بالشارع الإعتراضي ولو تحت ضغط السيطرة السورية، باتوا في مواجهة الشارع. الأنكى أن هناك من أتى للسطو على شعاراتهم تحت مصطلحات “التغيير” و”الإصلاح” ومواجهة المنظومة. وكان أكثر ما أذى قياديي “التيار” وقاعدته، شعار “كلّن يعني كلّن” الذي مثّل لهم ذروة الظلم المعنوي. لا بل أنهم يعتبرون الشعار الظالم إياه أقل سوءاً من جعلهم الهدف الأول للإتهامات وتحويل كل مسؤولية ارتكابات المنظومة وتداعياتها، منذ العام 1992 وحتى ال2017 لهم.
عندما يقرأون كل هذا الإمتداد بعين الحاضر، أقل الكلام إنهم راهناً، وتحديداً منذ انتهاء انتخابات 2022 وخروج عون من بعبدا، ينفذون ثأرهم التاريخي من مفاعيل “17 تشرين”. بات بإمكانهم اليوم، مقارعة كل من استأسدَ عليهم من ناشطين وقيادات بعضٌ منها أصبح نائباً، بالحجة الملموسة العمليّة. في السابق كان الغبار كثيفاً، لكن اليوم انجلت الرؤية أكثر. شراستهم ضد رياض سلامة إلى ملاحقتهم التدقيق الجنائي، تمنحانهم المشروعية اللازمة في قيادة المواجهة ضد المنظومة. يمكن لأركانها أن يتنصلوا ويغسلوا أيديهم، أو يستشرسون أكثر، لكن ارتباكهم إزاء تقرير التدقيق الجنائي والملاحقات القضائية الدولية لسلامة ومعاونيه، يجعلانهم حكماً في مرمى التصويب المشروع.
باختصار، يتصرف العونيون بأريحية أكبر منذ أن باتوا خارج السلطة. تخففوا من الأثقال، وكسروا الحصار المطبق عليهم. بعدما كان جبران باسيل مُهاجماً ورمزاً للتصويب من القاصي والديني، بات ناسجاً للتفاهمات و”التقاطعات” التي قرّبت خصومه منه، لا بل أنه أصبح موضع إشادةٍ علنية لا ضمنية فحسب من أركانهم.
وبين نجاحهم في تكوين حائط صَدٍّ ضد ما يعتبرونه ويسمونه منطق الفرض عبر مرشح تريد ثنائية حزب الله – أمل تنصيبه على اللبنانيين، والمسيحيين تحديداً، وبين التقاط فرصة عودة التدقيق الجنائي، نقاطٌ ثمينة يراكمونها في رصيدهم الشعبي والسياسي. من أهمها أنهم عادوا إلى الريادة في قضايا ومسائل لا يمكن النظر إليها على أنها محصورة حزبياً أو طائفياً، بل تطال جميع اللبنانيين.
هذا ما يعتبرونه إنجازاً لهم، لا بل ما يفاخرون به. إنه إنجاز مزدوج لأنه يمثل عودةً عميقة إلى طبيعتهم…