كتب جورج حايك:
في العمق لا مشكلة بين “القوات اللبنانية” ورئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي، فهناك علاقة جيدة بين الطرفين مبنية على الإحترام والتطلع إلى دولة حقيقية تنأى بنفسها عن أزمات المنطقة، دولة عصرية منتمية إلى المجتمعين العربي والدولي. إضافة إلى علاقة شخصية جيدة بين رئيس “القوات” سمير جعجع وزوجته ستريدا من جهة والرئيس ميقاتي من جهة أخرى، وغالباً ما أثنى الأخير على صفات ثنائي “القوات”، وكان هناك أعمال انمائية مشتركة وخصوصاً في قضاء بشري.
لكن “شيطان” الاختلافات يكمن في التفاصيل وخصوصاً في ظل الاستعصاء عن انتخاب رئيس للجمهورية وما يستتبعه من عوائق في الحياة السياسية والانتظام العام. ولعل أبرز ما يُزعج “القوات” من ميقاتي هو ارتمائه في حضن “الممانعة” أو الثنائي الشيعي، أما خوفاً أو مرعاة لمصالحه. فهو منخرط في المنظومة السياسية التي يأتي المواطن في آخر سلّم أولوياتها، لذا تبدو قرارات حكومته ظالمة وغير مدروسة، مبرراً ذلك بأن البلد مقسوم طائفياً والاصطفافات على أشدّها، فيما هو يحاول تسيير شؤون المواطن بشتى الوسائل حتى ولو كانت تتعارض مع الدستور.
لا شك في ان ميقاتي رجل سياسي ديبلوماسي، يعرف كيف يدوّر الزوايا، ويحاول تعويض انتهاكه للدستور بعلاقات مع بعض القوى السياسية ولا سيما الرئيس نبيه بري و”حزب الله”. ولعل أوضح الأمثلة على ذلك الطريقة التي تلاعب فيها بالساعة في مطلع شهر رمضان الفائت، وكأنّ لبنان يُحكم من مجلس عشائري وليس من دولة ومؤسسات، فإتخذ قراراً من هذا النوع في جلسة دردشة مع الرئيس بري، مرتكباً مخالفة دستورية باعتبار أنّ تعديل التوقيت بحاجة إلى قرار جديد عن مجلس الوزراء ولا يمكن استبداله بمذكرة، إضافة إلى تلاعبه بتوقيت معتمَد في معظم دول العالم، خصوصاً أنّه لم تبرز مطالبات بهذا الاتجاه الذي أقحم البلد في انقسام كان بغنى عنه بالتأكيد.
سريعاً يكون رد ميقاتي على اتهامه بانتهاك الدستور بإستخدامه الحجة الطائفية، علماً أن تجاوز الاستغلال الطائفي يكون عن طريق صدور مواقف تصوِّب على الاداء السياسي، لا إعطاء الانطباع الخاطئ عن انقسام مسيحي-إسلامي، لأن حقيقة الاعتراض المسيحيين وغيرهم كانت على الجانب الدستوري والمؤسساتي قبل أي اعتبار آخر.
هذا “الفاول” الذي ارتكبه ميقاتي لم يكن الوحيد في علاقته مع “القوات”، فاشكالية اجتماع حكومة تصريف الأعمال كانت مادة جدل بين الطرفين، فـ”القوات” منذ البداية لم تكن ضدّ اجتماع الحكومة بالمطلق، ولكنها اشترطت بأن يندرج اي اجتماع ضمن إطار الأمور الطارئة التي لا يمكن معالجتها ومقاربتها سوى باجتماع للحكومة من قبيل وقوع حرب، أو حدوث فوضى، أو انتشار وباء خطير، أو أوضاع صحية دقيقة، أو فقدان الأدوية السرطانية. والاجتماع يكون ببند واحد أو بندين كحدّ أقصى، فيما ميقاتي يصر على اجتماع الحكومة من خلال جدول أعمال بحسب طلب بعض الأحزاب والكتل السياسية، وخصوصاً الثنائي الشيعي.
هذا الأمر ترفضه “القوات” رفضاً باتاً لاعتبارات دستورية وسياسية، حيث إنّ الأولوية هي لانتخاب رئيس للجمهورية وليس لممارسة تنفيذية وتشريعية توحي بأنّ عجلة الدولة تسير بشكل طبيعي وكأن لا شغور رئاسيّاً، الأمر الذي بشكل غطاءً للمعطلين للانتخابات الرئاسية، فيما تعليق العمل الحكومي والتشريعي باستثناء حالات الضرورة القصوى يشكل مادة ضغط على الكتل النيابية من أجل الإسراع في انتخاب رئيس الجمهورية بهدف إعادة الانتظام لدورة الحياة الدستورية والسياسية.
واللافت أن ميقاتي بدلاً من تصحيح الأداء ليكون دستوري ومبدأي وسياسي، يهرب إلى الأمام، متهماً “القوات” و”التيار الوطني الحر” في التنسيق مع بعضهما البعض من أجل شلّ الحركة في البلد، معتبراً ان منطقهما يتلخص بالآتي: اذا كنّا غير قادرين على انتخاب الرئيس وعلى النجاح بأي مبادرة، فليتعطل البلد نهائياً، ولتبقى الحركة مشلولة الى ما شاء الله، ولتتوقف الحكومة عن تصريف الاعمال وعن العمل، حتى ولو وصلت صرخة الناس الى كل اصقاع المعمورة.
حتماً مقاربة ميقاتي غير صحيحة ولا تمت إلى الحقيقة بصلة، لأن التقاطع بين “القوات اللبنانية” و”التيار الوطني الحر” حول موضوعي اجتماع الحكومة والتئام الهيئة العامة في مجلس النواب هو من دون تنسيق أولاً، ومن منطلقات مختلفة ثانياً، ومن أولويات متناقضة ثالثاً، وبين مَن يحدِّد رابعاً موقفه ربطًا بالدستور وروحيته، اي “القوات” طبعاً، وبين مَن يحدِّد موقفه ربطًا بمصالحه السلطوية وحساباته السياسية من ضمن سلسلة مواقف نظرية ومزايدات مكشوفة، أي “التيار” حتماً. فرئيس “التيار” جبران باسيل يتصرف بمنطق غريب فيرفض مثلاً الضرورة لتسيير أعمال الحكومة، ويقبل بالضرورة حضور جلسة للمجلس النيابي هدفها تعطيل الانتخابات البلدية والاختيارية! فيما “القوات” ترفض عقد اجتماع حكومي بجدول اعمال فضفاض، وترفض المشاركة بجلسات تشريعية لمجلس النواب!
للأسف يشارك الرئيس ميقاتي في عملية الانقلاب على الدستور برفض الالتزام بالمهل المُلزِمة والدخول في شغور رئاسي مفتوح، ويتمدّد هذا الانقلاب باجتماعات للحكومة لا تلتزم بالضرورات القصوى والاستثنائية. علماً ان هذا الابتزاز يقوده الثنائي الشيعي وفق معادلة: إمّا انتخاب الرئيس الممانِع وإمّا انتظام دستوري طبيعي من دون رئيس الجمهورية.
أما المواجهة الأخيرة بين ميقاتي و”القوات” فكانت على خلفيّة جريمة القرنة السوداء، حين أصدر ميقاتي قراراً بإعادة احياء لجنة كان تم تشكيلها عام 2010 ايام حكومة الرئيس سعد الحريري، وطلب ان تضم ايضاً ممثلاً عن وزارة العدل، والهدف حسم الملف المتعلق بـ” القرنة السوداء” قضائياً وادارياً وانمائياً. حتماً تعرف “القوات” ان اللجان هي “مقبرة” الحلول، وأطلق رئيس “القوات” موقفاً عالي النبرة بأن تشكيل لجنة لدرس مسألة النزاعات بين الحدود العقارية، هو تجاوز لحد السلطة بشكلٍ غير مفهوم إذ إنّ مسألة النزاعات بين الحدود العقارية هي من صلاحيات السلطات القضائية وليس السياسية. واعتبرت “القوات” إنّ ملف تحديد الحدود العقارية في منطقة القرنة السوداء، هو بعهدة السلطة القضائية منذ ثلاث سنوات، وأعمال المسح والتحديد تجري على قدم وساق، ولو ببطءٍ! أمام الضغط القواتي، اضطر ميقاتي إلى التراجع طالباً التريث في دعوة اللجنة الى الانعقاد، وتجميد أعمالها.
ولا شك في ان خيارات ميقاتي السياسية في الملف الرئاسي بعيدة من خيارات “القوات” التي تواجه ترشيح سليمان فرنجية لأنه يتبنى مشروع “الممانعة” في لبنان، أما ميقاتي فلم يخف تأييده مرات عدة لفرنجية، وهذا أمر مستغرب من رجل دولة كان متوقعاً أن لا يكون طرفاً مع الثنائي الشيعي الذي أرهق البلد وأدخله في مشروع تدميري، يعرف ميقاتي أنه أوصلنا إلى الإنهيار، وهنا تُرسم علامات استفهام حول رؤيته السياسية التي تنزع عنه صفة النأي بالنفس الذي عُرَفَ به ليرتمي في أحضان الممانعة ويكرّس نفسه أحد رموز المنظومة السياسية التي عاثت في البلد فساداً!