كتب ابراهيم بيرم: في لبنان الثلاثينيات والأربعينيات، في زمن بدايات النهوض الثقافي والأدبي، لمعت في سماء الادب والصحافة والترجمة كوكبة من المثقفين والشعراء الرياديين، إختارت أن تطلق على نفسها اسم “عصبة العشرة”، وكان لافتاً تمسكهم بهذا العدد رغم انهم ظلوا كما انطلقوا، اربعة فحسب.
تجربة مميزة ورائدة خاضها معاً كل من الشاعر الرومانسي الكبير الياس ابو شبكة، والصحافي الاديب ميشال أبو شهلا، والناشر ومنشىء مجلة “المكشوف” فؤاد حبيش ودار النشر المسماة باسمها، والروائي والديبلوماسي المعروف خليل تقي الدين.
والطريف انه عندما سئل الشاعر أبو شبكة عن سبب تمسكهم بهذا الاسم (عصبة العشرة) وعدم تراجعهم عنه، رد بتلك الاجابة المستبطنة ثقة عالية بالنفس وبالقدرات ونصها: أربعة لكنهم عند الحساب عشرة.
هذه الاجابة كانت في الظاهر تعكس نرجسية وتفخيماً بالذات، ولكن ثمة مَن يزعم من مؤرخي المسيرة الادبية في تلك الفترة بأن افراد تلك العصبة تلقوا استهلالاً وعوداً من زملاء لهم بالالتحاق بعصبتهم في ما بعد، لكنَّ الواعدين ما لبثوا ان نكثوا بوعودهم كل لأسبابه الخاصة.
ويروي الناشط والمؤرخ الثقافي البرت الريحاني، وابن شقيق الاديب والرحالة المعروف أمين الريحاني في مقابلة له، ان ثمة جمهرة من نجوم الادب في ذلك الزمن كانت تفد الى الامكنة التي يرتادها “الفرسان الاربعة ” ويشاركون في نقاشاتهم، منهم الاديب رئيف خوري والروائي توفيق يوسف عواد وعمر فاخوري وآخرون. لكنَّ هؤلاء الوافدين آثروا ان يظلوا جالسين على مقاعد الضيوف ولم يلتحقوا بالعصبة رسمياً كما كان مأمولاً، بل ان ثمة خلافات في الرؤى برزت وسجالات دارت بينهم، كان محورها العصبي والمتعصّب لشعره دوماً الشاعر أبو شبكة، ادت الى ارفضاض هؤلاء ومغادرتهم.
وفي مقابلة معه اجراها الشاعر هنري زغيب ونشرها في كتابه المعنون “الياس ابو شبكة من الذكرى الى الذاكرة”، يلقي الروائي تقي الدين اضواء على تجربة العصبة مركزاً على بداياتها فيقول: كان الاطار الاول لهذه العصبة هو مجلة “المعرض” لمؤسسها الصحافي والسياسي ميشال زكور الذي افرد لأعضاء العصبة في دار المجلة (كانت في شارع المعرض في وسط بيروت التجاري) غرفة خاصة نجلس فيها نحن الاربعة، هذا على كرسي وذاك على كنبة وهذا على طاولة كيفما اتفق الحال. كانت ميزة حياتنا في تلك الغرفة الفوضى أو البوهيمية، اذ لم نكن نتقيّد بنظام لا في الكلام ولا في الكتابة ولا في العمل…
ويتحدث تقي الدين عن مدى خوف امير الشعراء احمد شوقي من ألسنة اعضاء العصبة ولا سيما ابو شبكة، ومن سهام نقدهم، مما دفعه الى السعي لاسترضائهم وشراء سكوتهم.
ويخلص تقي الدين صاحب روايات ” العائد” و”عشر قصص” و”الاعدام” الى الاستنتاج “أن العصبة ولولبها الياس (ابو شبكة) كانت رائدة في الادب العربي الحديث. تأثرنا بالادب اللبناني المهجري (الرابطة القلمية في نيويورك)، و”العصبة الاندلسية” (في اميركا اللاتينية) وبشكوك طه حسين في الشعر الجاهلي. كان دم الشباب في عروقنا ثورة على المحنطين والمقلدين وادباء الكلمة الجثة، وكنا ندعو الى ادب الحياة النابض كما القلب في الصدر”.
وما يذكر، ان بداية انفراط عقد العصبة كان مع وفاة أبو شبكة في اواخر عام 1947، لكنها ظلت علامة فارقة لحد اليوم في مسيرة الأدب النهضوي اللبناني والعربي.