كتب باسل عيد: ما بين الأعوام 1975 – 1990، كانت الحرب الأهلية في لبنان على أشدها.رائحة القذائف في كل مكان، ورجال أجهزة المخابرات العالمية في كل الأركان، في واحدة من أسوأ الاحداث التي مرت على سويسرا الشرق.
كانت شوارع بيروت مقسمة بين الميليشيات والمجموعات المسلحة المختلفة، وكانت اركان القوى العظمى كعادتها مستفيدة من الخراب، وكان المواطنون يتجولون في حرص تام وأصوات الموت تحيط بهم.
في ظل هذا الوضع المتوتر، يظهر متسول أخرس، يتنقل في شوارع بيروت.
شخص مجهول، رث الثياب ورائحته كريهة، حافي القدمين وكان أبكم لا يتكلم، ويرتدي معطفاً أسود طويلاً ممزقا، كان يلبسه صيفا وشتاء.
وفي أحد الايام شاهده زياد أمين ربيعة، المرافق الشخصي للرئيس ياسر عرفات، وقال انه أشفق عليه كثيراً، واستغرب كيف انه كان يتجول بين القذائف المتساقطة من الطائرات الاسرائيلية من دون خوف. واضاف بأنه لفت نظره لتواجده الدائم بالقرب من حاويات القمامة، وأشفق عليه عندما شاهده يبحث عن بقايا الطعام.
وأشار ربيعة الى ان شخصيات سياسية حينها كانت تشفق على ذلك المتسول وأدخلوه الى مكاتبهم لإطعامه.
وكان محل إقامة ذلك المتسول كوخ خشبي في شارع السادات في بيروت في بداية ثمانينات القرن الماضي. لكنه في اوقات كثيرة، كان يتركه ويفترش الطرقات، وكان الناس يحبونه ويساعدونه.
كان يعرف سائق التاكسي والبائع، ويساعد الناس في نقل الاغراض في أوقات القصف. وكان عفيف النفس الى حد كبير. ويذكر تجار منطقة الحمراء انهم عندما كانوا يتصدقون عليه برغيف الخبز كان يقبل، لكن إذا قدم له أحدهم ربطة كاملة فكان يرفض اخذها. واذا قدموا له على سبيل المثال كوباً من الشاي كان يقبل، لكن يرفض أخذ المال لشرائه، وهكذا دواليك.
وقالوا انه بالرغم من جنونه وغبائه كان دائم الابتسامة، وكان مؤدباً في طبعه. وكونه أخرس لم يكن باستطاعته التعبير عن نفسه، ولا ان يتحدث عن هويته.
وبسبب ذلك، اختار له الاهالي إسماً لينادوه به وهو: أبو الريش. والسبب انه كان يلبس قبعة عليها ريشة.
ونتيجة الانفلات الامني في لبنان حينذاك، لم يخطر ببال احد من سكان بيروت للاستفسار عن هوية المتسول وكيفية ظهوره. وشكلت حالته المزرية والصعبة، دافعاً كبيراً للاستعطاف، واستطاع أن يوصل شهرته الى مناطق واسعة في لبنان.
حينها كانت الحرب الاهلية مستمرة، وكان الحديث عن ظروف الاجتياح الاسرائيلي حديث الساعة، الى ان دخل الجيش الاسرائيلي الى بيروت واجتاحها من محاور عدة.
واثناء تقدمه البطيء، قابلته مقاومة شرسة من أهلها. ونتيجة لذلك، عانى اهل بيروت من قصف وحشي ومخيف.
كل هذا حصل وابو الريش يفترش الأرض ويعيش بهدوء. حاول الناس تنبيهه الى خطورة الاوضاع ووصول الجيش الاسرائيلي الى الشوارع والأزقة التي كان متواجداً فيها.
لكن مع وصول الجيش الاسرائيلي، حدث ما أصاب اللبنانيين بالصدمة.
فمن هو هذا المتسول؟
دخلت القوات الاسرائيلية الى مدينة بيروت في اجتياح العام 1982. بعد وقوع مجزرة صبرا وشاتيلا في 16 ايلول من العام نفسه، ومع اشتداد الحرب ووصول طلائع الجيش الاسرائيلي الى بيروت، يئس الناس من تصرفات المتسول الأخرس وعدم فهمه لتحذيراتهم. فتركوه ليلاقي مصيره بنفسه لأن احدا منهم لم يستطع ثنيه عما يفعل.
وعندما وصل الجنود الاسرائيليون الى المنطقة التي يتواجد فيها المتسول، وقف عدد من الناس في الطريق وفي زوايا الابنية لمراقبة ما سيحصل بسبب خوفهم عليه.
وصلت فرقة من الجيش الاسرائيلي لناحية أبو الريش، ووقفت أمامه عربة عسكرية مصفحة تابعة للمهمات الخاصة الاسرائيلية، وترجل منها 3 ضباط: الاول برتبة مقدم الى جانب نقيبين، وخلفهم سيارات عسكرية مليئة بالجنود الاسرائيليين.
حينها صوب الجنود أسلحتهم نحو المتسول، وأصبحوا على بعد خطوتين منه، فتحول الى شخص آخر ووقف بشكل مفاجىء. إلا أن المقدم الإسرائيلي رفع يده وأدى التحية للمتسول وتوجه له بالعبرية: تحية سيدي الكولونيل. فرد المتسول التحية العسكرية بمثلها بهدوء تام وعلى وجهه ابتسامة النصر، قائلاً: لقد تأخرتم قليلاً. ومن ثم استقل معهم الآلية العسكرية المصفحة، التي تحركت ترافقها 3 سيارات عسكرية اخرى، تاركين في المكان كل انواع الصدمة والذهول.
بعدها ظهر ابو الريش يرتدي ملابس عسكرية وتواجد على احد حواجز الجيش الاسرائيلي.
الا ان المفاجأة كانت بأن ذلك المتسول كان قادراً على تحديد كل افراد الاحزاب اليسارية اللبنانية والمنظمات الفلسطينية بالاسم. وبسببه تم القاء القبض على معظم المقاتلين بمنتهى السهولة. واكتشف في ما بعد انه خلال تلك الفترة، كان يراقب الناس ويرصد تحركات المقاتلين والقادة. وقد لعب دوراً مهماً في إرشاد الطائرات الاسرائيلية لأماكن مقرات الاجتماعات والعمليات واماكن الاسلحة في بيروت من اجل قصفها.
وبحسب زياد ربايعة، كانت مهمة ابو الريش الرصد وتوجيه الطائرات فقط وليس الاغتيال.
وكان هذا المتسول، من باب الشفقة عليه، يجلس بين مثقفين ومسلحين فلسطينيين من منظمة التحرير الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية. واستطاع خداع الجميع وجمع كماً هائلاً من المعلومات المهمة التي ساعدت اسرائيل عسكريا باجتياح بيروت، وكان له الفضل الاول والاكبر في تسهيل عملية الاجتياح. وهذا كله حصل بعد واحدة من أشهر عمليات التنكر والاخفاء في التاريخ.
هذا الجاسوس المثالي بالنسبة لاسرائيل، لم يتم الاعلان عنه حتى الآن، ولا أحد يعرف اسمه الحقيقي. ولولا حكايات تجار الحمراء وشهادة زياد ربايعة، المشهور بأحمد النابلسي، في “مذكرات مرافق”، واعلان القصة في جريدة شاهد الكويتية وصحف اخرى، لما عرف احد بقصته.
والسؤال هو: كم قصة مماثلة نجحت من دون ان تعلن عنها إسرائيل؟