كتب جورج حايك:لا يختلف اثنان على ان حاكم مصرف لبنان رياض سلامة هو حديث الناس عشية انتهاء مدة خدمته في آخر تموز الجاري، والسؤال الذي يفكّر به الجميع: أين أصاب سلامة وأين أخفق؟
اكتسب سلامة خبرة واسعة في شركة ميريل لينش بين عامي 1973 و1985، متنقلا بين مكاتب بيروت وباريس، الأمر الذي أدى إلى تعيينه في 1985 نائبا للرئيس ومستشارا مالياً للشركة، وقد شغل هذا المنصب حتى تعيينه حاكماً لمصرف لبنان، في الأول من آب 1993 لمدة 6 سنوات. ثم أعيد تعيين سلامة لأربع ولايات متتالية في 1999 و2005 و2011 و2017، وتنتهي ولايته في تموز 2023، وهو يؤكد أنه سيغادر منصبه فور انتهاء ولايته.
لا شك في أن الواقع السياسي-الاقتصادي متداخل جداً في لبنان، ومهمة سلامة لم تكن سهلة في ظل الوضع غير المستقر، بل أن لبنان يقع على خط الزلازل السياسية الاقليمية، وهناك عاملان سلبيان كانا ينعكسان على الوضع الاقتصادي والمالي هما: الأول هو الاحتلال السوري وحروب حزب الله، والثاني فساد المسؤولين اللبنانيين الذي ينخر في الجسم اللبناني.
في هذا الواقع، كان سلامة يعمل منذ 30 عاماً، ولعل سياساته العامة أخذت في الإعتبار الظروف اللبنانية غير الطبيعية، وهنا نجح في المحافظة على استقرار العملة اللبنانية واعتبر منقذاً لها، بعدما ثبّت سعر صرفها على 1520 ليرة للدولار الواحد، مما خلق استقراراً معيشياً، في ظل وجود احتياطات مهمة بالدولار الأميركي لدى المصرف المركزي. وانخرط منذ العام 2016 وبغطاء سياسي، في هندسات مالية هدفت إلى الحفاظ على قيمة الليرة ورفع احتياطي المصرف المركزي ورسملة المصارف، إلا أن جميع اجراءاته انهارت في نهاية 2019 مع دخول لبنان في نفق الازمة الاقتصادية.
لكن لا بد من الإعتراف بأن الحكومات المتعاقبة في لبنان، أقرت في بياناتها الوزارية كافة، التزامها بتثبيت سعر صرف الليرة، وألزمت مصرف لبنان بتنفيذ هذا التعهد، مما أدى الى استنزاف جزء من الاحتياطي لهذا الغرض، ومن هنا فإنه لا يمكن تحميل مسؤولية ما حصل للحاكم فقط، فهو كان ملزماً بتنفيذ سياسات متمثلة بتشريعات تصدر عن البرلمان، أو مراسيم وزارية تصدر عن الحكومة وبإرادة سياسية عليا، وبالتالي لم يكن لدى سلامة خيار سوى الاستقالة، ليتم استبداله بحاكم آخر ينفذ سياسة السلطات السياسية!
خطيئة سلامة أنه استمر بالهندسات المالية، ولم يكن يفترض به تنفيذ تلك السياسات، التي كانت تهدف لشراء الوقت، في ظل عدم استعداد الطبقة السياسية الفاسدة لتنفيذ أي برامج إصلاحية، وفي ظل الصراع السياسي الحاد في البلد، علماً أن الهندسات المالية هدفت الى تأجيل الانفجار ولكنه وقع وبكلفة أعلى.
وهناك خبراء ماليون واقتصاديون يعتبرون ان سلامة ارتكب الكثير من الأخطاء وخالف مهمات البنك المركزي، التي تنص على توفير السيولة بالكلفة المناسبة لحفز الاستثمار المنتج، وأخفق في السيطرة على التضخم، كما أخفق مؤخراً عبر منصة “صيرفة”، فهو علمياً يمثّل سلسلة من الاخفاقات التي لا تنتهي بدءاً من اخفاقه بالمحافظة على سلامة المصارف اللبنانية وعلى أموال المودعين، وصولاً الى مخالفته قانون النقد والتسليف، عبر الإمعان في اقراض الأموال لخزينة الدولة التي تخضع لإدارة سياسيين معروفين بفن هدر الأمور والمحاصصة.
وما يظنه البعض انه إنجاز لسلامة كتثبيت العملة اللبنانية طوال التسعينات وحتى عام 2019، كان أمراً وهمياً وليس أمراً حقيقياً مبنياً على قواعد اقتصادية صلبة، لأن أي شخص أو مؤسسة لا يمكن لها التغلب على قوة السوق. ويبدو أنه اعتبر نفسه ومؤسسة مصرف لبنان، اقوى من السوق التي تتمثل بسياسة العرض والطلب، ففشل في سياسة تثبيت العملة عند 1500 ليرة للدولار، ولو أنها دامت لأكثر من عقدين من الزمن!
أما بالنسبة إلى اتهامه بجرائم مالية، فلا يجوز سوى الاحتكام للقضاء المحلي النزيه والقضاء الدولي العادل للبت فيه، وبالتالي فإن المتهم بريء حتى تثبت إدانته، وعلينا انتظار نتائج التحقيقات.
واللافت أن سلامة حاز، خلال فترة ولايته ما بين 1993 وحتى 2019، أوسمة وجوائز عالمية عديدة أبرزها: أفضل حاكم لمصرف مركزي عربي وأفضل حاكم في الشرق الأوسط أكثر من مرة، كما أعتبر واحداً من أفضل 9 حكام مصارف مركزية في العالم. أضف إلى ذلك أنه أول حاكم مصرف مركزي عربي قرع جرس افتتاح بورصة نيويورك عام 2009. وكل هذه الجوائز لم تنفعه إثر وقوع انهيار اقتصادي وانطلاق مظاهرات شعبية غير مسبوقة في تشرين 2019 ضد الطبقة السياسية المتهمة بالفساد وبتغليب منطق الصفقات في إدارة البلاد. ومنذ ذلك الحين وسلامة يسعى لاستيعاب الانهيار الصاروخي للعملة اللبنانية من 1500 ليرة للدولار الواحد لحدود 95 ألفاً للدولار، من خلال إجراءات وتعاميم شتى، يقول خبراء إنها تؤخر الارتطام وتجعل وقعه أخف.
والأدهى انه بعد حصول الانهيار حاول المسؤولون السياسيون أن يجدوا كبش محرقة للأزمة المالية-النقدية- السياسية، للقول “عفا الله عما مضى ورياض سلامة هو المسؤول الوحيد عن كل ما حصل!”، لكن هذا الأمر يتسم بالظلم والتجني ، فسلامة يتحمل لا شك جزءاً من المسؤولية المتعلقة بالسياسة النقدية، بموضوع الودائع والتداخل بين خزينة مصرف لبنان والدولة اللبنانية. لكن هؤلاء السياسيين يتناسون انه طوال الأعوام الماضية شهد لبنان أزمات سياسية كبيرة فرضت على الحاكم اتخاذ إجراءات للحفاظ على الاستقرار النقدي لكنها لا شك ليست السبب وراء الانهيار باعتبار أن القشة التي قصمت ظهر البعير كانت قرار حكومة حسان دياب عدم دفع سندات اليوروبوند، ومن بعده سياسة الدعم التي أدت لصرف 18 مليار دولار من أصل 33 مليار دولار كانت موجودة في عند اندلاع الأزمة وهنا المصيبة الكبرى.
سلامة الذي وُصِفَ في أحد المراحل بأنه بطل خارق، تحوّل بنظر القضاء الفرنسي مختلس ومرتكب جرائم غسل أموال مع تحويلها إلى حسابات في الخارج وبإثراء غير مشروع!
ستبقى مرحلة حاكمية مصرف لبنان التي تولاها رياض سلامة مادة للدرس والبحث والجدل لفترة طويلة، لكن كلمة حق تُقال أنه لو كان هناك حاكم آخر مكان سلامة لم يكن ليُغيّر فيما حصل والسبب يعود إلى الحياة السياسية اللبنانية وإلى قانون النقد والتسليف، وخصوصاً المادة 91 التي يتوجّب إلغاؤها أو أقّلّه تعديلها لكي تكون خاضعة لمزيد من القيود ولا يكون تمويل الدولة مبنياً فقط على إصرار الحكومة.
وربما ستتجه الأنظار ابتداء من آخر تموز إلى من سيتولى مهمات الحاكم في ذروة العاصفة النقدية والاقتصادية، وأياً كان عليه أن يكون له معرفة قوية بالسياسات النقدية، قادر على إدارة ملف إعادة هيكلة المصارف، ويتمتع بعلاقات دولية واسعة وغير تابع لفريق سياسي.