من المسلم به أن الشخصيات التي تقدم عملاً مفيدًا لوطنها أو تضحي بأرواحها في سبيل تحرير بلادها من الاحتلال، ينضمون إلى تاريخ وذاكرة الوطن ويكرمون كأبطال حقيقيين، ولكن في لبنان تواجه بعض الشخصيات صعوبات وتحديات في الحصول على الاعتراف والتقدير، وهذا ما حصل مع أيقونة المقاومة والبطلة المناضلة سهى بشارة التي لم تلق الاهتمام المطلوب من الحكومة اللبنانية بعد الذي حصل معها في اليونان، إذ أنه حتى كتابة هذه السطور لم تحرك الدولة ساكنًا لأقدام اليونان على منع بشارة من دخول أراضيها وترحيلها. حتى الآن، لم يصدر موقف رسمي للرد على ما تعرضت له بشارة التي اعتبرتها اليونان شخصًا يشكل تهديدًا للسياسة العامة أو الأمن الوطني أو الصحة العامة أو العلاقات الدولية لدولة أو أكثر من الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، علمًا أن بشارة هي رمز للمقاومة في لبنان، وهي شخصية قامت بتضحيات عظيمة في سبيل تحرير بلدها ورفعت شأنه. فقد قامت في سن العشرين بمحاولة اغتيال العميد أنطوان لحد، قائد ما كان يسمى بجيش لبنان الجنوبي الموالي لإسرائيل، لتشكل تلك العملية جزءًا من سلسلة من البطولات التي أسهمت في تحقيق التحرير.
الحزب الشيوعي اللبناني الذي تنتمي إليه سهى بشارة، قدم طلبًا لموعد من وزير الخارجية في لبنان، لكنه لم يحدد حتى الآن. ودعا الحزب الدولة اللبنانية أن تتحرك بشكل فوري وتؤمن الدعم السياسي للمناضلة بشارة وتتخذ تدابير صارمة في مواجهة هذا الظلم، واستدعاء السفير اليوناني والتعبير عن رفضها للموقف واعتباره اعتداءً على سيادة لبنان الوطنية وحرية وأمن مواطنيه. الا أن شيئًا من ذلك لم يحصل حتى الآن.
أمام ذلك الصمت والتجاهل، وجه عضو اللقاء الديموقراطي النائب وائل أبو فاعور بصفته مواطنًا لبنانيًا ونائبًا في البرلمان، رسالة استنكار وعتب للسفيرة اليونانية في لبنان كاثرين فونتولاكي، قال فيها “أوجه لكم هذه الرسالة كمواطن لبناني وكنائب عن الشعب اللبناني يعرف ويقدّر معنى العلاقات التاريخية بين اليونان ولبنان ويحرص عليها أشدّ الحرص، لأعبّر لكم عن شجبي واستنكاري لما قامت به السلطات في بلادكم من تعامل مرفوض وغير لائق مع المقاومة اللبنانية سهى بشارة عبر منعها من عبور بلادكم إلى مكان إقامتها وإعادتها إلى لبنان.
سعادة السفيرة،
تعود علاقات لبنان واليونان كما تعلمون إلى عقود سحيقة، ربما تكون بداياتها المؤرخة في علاقة الإغريق مع الفينيقيين الذين سكنوا شواطئ لبنان لفترةٍ من الزمن، وقد تشاركوا وتبادلوا أبجدياتهم ولا طائل من الجدل عمن استمد أبجديته من الآخر. وإضافةً إلى التبادل الثقافي، فقد كان لبنان أيضًا مرتعًا لمستعمرات يونانية، وطالما تمتعت الثقافة اليونانية والسياسة اليونانية بوجود تاريخي قوي، فيما أصبح لاحقًا لبنان الذي نعرفه اليوم، ولا تزال أسماء عدد من المدن اللبنانية تحمل تسميات يونانية.
سعادة السفيرة،
لقد حفل تاريخ البلدين بتشابهات تاريخية، فعندما هاجر أو نزح بعض يونانيي كريت إلى لبنان بين العامين ١٨٦٦ و١٨٩٧، تاريخ نهاية الحرب التركية اليونانية، وجد هؤلاء النازحون في لبنان الملاذ الآمن سياسيًا وثقافيًا واجتماعيًا وروحيًا. وغني عن الذكر العلاقات الروحية والدينية بين بعض الطوائف اللبنانية، خاصة الأرثوذكسية والكاثوليكية اليونانية، التي تعود مرجعيتها إلى اليونان. ومع العلم بأن بعض المهاجرين من اليونان إلى لبنان كانوا من المسلمين وليس فقط من المسيحيين، لتعود الدوائر وتدور لكي يجد بعض اللبنانيين ملاذًا لهم في اليونان خلال الحرب الأهلية وفي غضون العدوان الإسرائيلي على لبنان في العام ٢٠٠٦.
سعادة السفيرة،
تدركون وندرك أن مقاومة الاحتلال، أي احتلال، هو حق مكرس ومقدس لكل شعب، وما قامت به المناضلة سهى بشارة عندما وجهت طلقات مسدسها إلى صدر العميل أنطوان لحد هو عمل وطني وبطولي مشروع. وما عانته بعد ذلك من سنوات الاعتقال والتعذيب على يد الاحتلال الإسرائيلي وعملائه اللبنانيين هو عمل جبان وغير مشروع ويخالف كل القواعد والقوانين الدولية والإنسانية. وهي تشبه في ما قامت به نضال رمز المقاومة اليونانية في نضاله ضد الجيش الإيطالي الغازي في الحرب العالمية الثانية، الموسيقار ميكس ثيودوراكيس الذي ناضل ضد الفاشية والديكتاتورية العسكرية. وأنا هنا أسألكم: هل يحق للسلطات في بلادكم تحقير وازدراء نضال الشعب اللبناني ضد الاحتلال الإسرائيلي ونضال شهدائه وجرحاه وأسراه، كما فعلتم مقابل تمجيدكم لنضال شعبكم ضد الاحتلال؟ والاحتلال واحد مهما تعددت تسمياته. وما كان ليكون موقفكم لو أن الدولة اللبنانية قامت بالإجراء نفسه مع الثائر الراحل ميكس ثيودوراكيس في لبنان، مثلاً؟ هل كنتم لتقبلون الأمر؟
سعادة السفيرة،
أكتب لأعبر لكم عن شجبي للخطأ الأخلاقي والمروع لسلطات بلادكم بحق الشعب اللبناني وبحق مناضلة تضفي شرفًا لأي بلاد تحل فيها. وأدعوك وأدعو المسؤولين في بلادك إلى قراءة كتاب ذكريات سهى بشارة عن سنوات اعتقالها وعنوانه “المقاومة”، ومقارنتها بكتاب “يوميات المقاومة” التي صاغها ميكس ثيودوراكيس، لتعلموا أنكم أخطأتم بحق شعبكم ونضاله ضد الاحتلال، قبل أن تخطئوا بحق لبنان أو سهى بشارة.
أتمنى لبلادكم، التي نحرص على أطيب العلاقات معها، أن لا تحيا في مكان أخلاقي أضيق من زنزانة سهى بشارة، أياً كانت اعتبارات السياسة، بل أن تبقى كما نعهدها في مكان رحب يليق بها.