أخباركم – أخبارنا
كتب ماهر إسبر عبر صفحته الشخصية بموقع فيسبوك: أصابتني في آخر عشرين سنة دهشتان، الأولى عندما خرجت من سجن صيدنايا سنة 2011، ساعتها اجتمع في منزلنا عشرات الأشخاص الزائرين، وجميعهم بلا استثناء كانوا من ثوار مدينة سلمية ومن المشاركين في مظاهراتها. دهشتي الأولى كانت حين سمعت كلامهم، والذي كسر كل حواجز الخوف حينها، وكانوا يتحدثون في بيتنا وكأنهم في [الهايد بارك]، الذي اختلف عليّ وأصابني بحيرة حينها أنني ولنفس الكلام الذي سمعتهم منهم يومها، اتهمني بعضهم بالجنون قبلها بأكثر من ثمانية أو تسعة سنين عند كلامي معهم عن الدولة الديمقراطية وإسقاط النظام. سبب دهشتي أن كلامهم السابق كان لا يزال يرن في أذني عن جنون هذه الأحلام وعدم واقعيتها، وخصوصاً حين بدأت محنتي في اللحظة التي داهمت فيها المخابرات السورية محلاتنا وبيوتنا في سلمية لاعتقالي. وسأروي حادثة واحدة حدثت بعد هروبي بعدة أشهر ولا تزال في قلبي حتى الساعة.
هربت يومها إلى دمشق، وتقطعت بي السبل من الهروب، ولم يعد لي مكان ألجأ إليه ولو لساعة واحدة بعد أن علمت أن المخابرات تراقب أغلب الناس المقربين مني وتراقب أماكن تواجدهم، كما أنها استدعتهم وحققت معهم جميعاً. ولا أتحدث هنا عن عائلتي المباشرة، بل عن جميع الأعمام والأخوال وأبنائهم، وحتى من ذكر في تقارير المخبرين أنهم من أصدقائي. [استدعت المخابرات زملاء لي في صف البكالوريا للسؤال عني، وأنا لم أرهم أو ألتق معهم منذ كنت في ذلك الصف]. ضاقت بي الحال، وكنت بسبب انقطاعي عن كل من أعرفه قد تقطعت بي السبل حقيقة، ولم يعد بإمكاني أن أصل إلى أي أحد ممن يمكن لهم أن يساعدوني.
تذكرت أحد الأصدقاء الذين كنت أعتبر أنهم يمكن الاعتماد عليهم، وخطرت فكرة في بالي لتقليل المخاطر عليه. قلت بدل أن أحرجه وأذهب إلى مكان حيث يمكن لأحد المخبرين أن يرانا، فإنني سأنتظره على طريق عمله، وكنت أعلم أنه يسلك طريقه للعمل مشياً على الأقدام في أحد شوارع دمشق القديمة. وهذا الطريق مزدحم جداً بالمشاة، فلا أحد سوف ينتبه له يتحدث معي في ذلك الشارع وهكذا أفك أزمتي. وصلت مساءً لذلك الشارع، وبقيت أنتظر لربع ساعة، ثم رأيته يقترب بين المارة. ولكن بعد أن اقترب حوالي الثلاثين متراً، غير طريقه وعاد بالاتجاه المعاكس. تبعته وأنا أصرخ له، صرخت مرتين، ولم يلتفت. في المرة الثانية حين فهمت أنه رآني وسمع ندائي ولا يريد رؤيتي، غيرت طريقي أيضاً ومشيت باتجاه آخر.
كنت لم أذق ولو لقمة طعام واحدة منذ يومين. قررت حينها أن أدخل إلى محلات الصياغ وأرهن ساعتي مقابل أي مبلغ. كانت الساعة هدية لوالدي، وكان قلبها وهيكلها من الذهب الخالص. دخلت أحد المحلات ورهنتها مقابل 1500 ليرة، وكانت تسوى حينها أكثر من مئة ألف. طبعاً لم أرجع بعدها لاستعيدها أبداً.
حين اعتقلتني المخابرات الجوية بعدها بعدة أشهر ورمتني في تلك الإفرادية، جاؤوا لي ببعض الأرز وشوربة العدس والبطاطا المسلوقة. أذكر أنني أكلتهم حينها ونمت بعمق، وكأنني استرحت أخيراً من تعب الهرب والجوع في ذلك القبر.
الدهشة الثانية تصيبني الآن حين أرى الإسلاميين يخاطبون العالم، وكأنهم لم يقتلوا البشر من كل لون ودين، ولا يحملون فكراً أصبح يُصنف بين البشر بأنه أحد أكثر الثقافات وحشية في تاريخها. أراهم وأقول في نفسي: هل هؤلاء هم حقاً نفسهم من خطفوا الناشطين واعتقلوهم وقتلوا بعضهم واغتالوهم، الذين انتموا لتنظيم القاعدة الذي لن تجد شعباً في الأرض لم يصله إجرام بعض عناصرهم، ولم يكتوِ أبرياؤه بإرهابهم؟
هل حقاً هم تغيروا؟ وأصبحوا شيئاً جديداً؟ هل سوف يكذبون خوفنا منهم، ويسدوا ذرائع النظام وحلفائه بأنهم إرهابيون؟ أو يكذبوا منظّري العالم الغربي ومفكريه، والذين لم يبقَ واحد منهم على الإطلاق إلا و[بل يده] بالكلام عن إرهاب الإسلاميين وتخلفهم، وعدم إمكانية اشتقاق نظام عصري من هذا الدين أو حتى ممن انتمى لثقافته. ويقصدون هنا حتى الأقليات التي عاشت في مجتمعات إسلامية، الذين وصمونا جميعاً بالدونية بسبب مقولات فلاسفتهم [التافهة] بأن الإسلام غير قادر على أن ينتج نموذجاً يحترم هذا العصر، يحترم اختلاف المنابت والأصول الثقافية والإنسانية للبشر والشعوب.
هل يمكن لهؤلاء الإسلاميين لا أن ينتجوا نموذجاً الآن يرد على النظام وأعوانه فقط، أو أن يردوا على مخاوف الأقليات في الشرق، بل أن يردوا على العالم الغربي العنصري، الذي وصمنا جميعاً بما أننا ننتمي لهذه الثقافة الشرقية، بأننا في مرتبة دنيا من بقية البشرية، ودوناً عن المسيحية واليهودية وبقية الأديان التي أمكن لها أن تنتج أنظمة دول عصرية وتتماشى مع القيم الإنسانية في هذا العصر من حرية وكرامة واحترام للاختلاف؟
هل هذا التغيير لديهم هو تغيير جوهري في الفهم، ومن ثم في اجتراح الحلول من الشرع [فقه الواقع] للوصول لدولة عصرية في الفكر الإسلامي وفي انتقالهم للعيش في الزمن الحالي بدلاً من الغوابر؟
أم أن كل ما نراه هو سياسة لتمكين [آل الجولاني] بدلاً من آل الأسد؟ وأن أمام الشعب السوري عشرية ثالثة، سوف أدهش أنا في نهايتها!