كتبت عايدة الأحمدية لـ ” أخباركم – أخبارنا”
يصادف اليوم، السادس من كانون الأول، ذكرى ميلاد أحد أبرز رموز النضال السياسي والفكري في لبنان، المعلم كمال جنبلاط، الذي ترك بصمة عميقة في التاريخ السياسي اللبناني، وشكّل نموذجًا فريدًا للقيادة الوطنية.
دافع المعلم دومًا عن وحدة النسيج الاجتماعي اللبناني، وكان من أوائل السياسيين الذين نادوا بإصلاح النظام السياسي الطائفي.
انتقد جنبلاط الأوضاع العامة بشدة، داعيًا إلى بناء دولة على أسس سليمةفكتب في احدى مقالاته، “لا يمكن للإدارة أن تقوم بدورها وهي تعاني من ضعف الجهاز الوظيفي وتراكم الفساد، ولا يمكن للحكومة أن تكون فعّالة إلا إذا ضمت شخصيات قادرة وقوية. كما أن الدولة لا تصبح دولة حقيقية إلا إذا قادها رجال يتحلون بروح القيادة والمسؤولية.”
أسس كمال جنبلاط “الحزب التقدمي الاشتراكي” عام 1949 و”الجبهة الاشتراكية الوطنية” عام 1951 لمحاربة الفساد. كما شارك في مؤتمر الأحزاب العربية المعارضة في بيروت عام 1954، وساند مصر خلال العدوان الثلاثي عام 1956.
خلال مسيرته النضالية، واجه جنبلاط تحديات كبيرة، وكان صوتًا مناهضًا للظلم والاستبداد. لم يخشَ الصعوبات في سبيل الدفاع عن قناعاته، حتى دفع ثمن مواقفه الوطنية والقومية بحياته، حيث اغتيل في 16 آذار 1977.
صانع الرؤساء
فرض النظام الطائفي حدودًا مجحفة على دوره السياسي، حيث لم تتجاوز مسؤولياته غالبًا المناصب الوزارية. ومع ذلك، وصف بأنه “صانع الرؤساء”، إذ لعب دورًا محوريًا في إيصال كميل شمعون إلى منصب رئيس الجمهورية في مواجهة بشارة الخوري. إلا أنه قاد انتفاضة شعبية عامي 1957 و1958 ضد شمعون، عندما حاول الأخير ربط لبنان بالأحلاف الاستعمارية.
دعم جنبلاط انتخاب فؤاد شهاب رئيسًا للجمهورية عام 1958، وكان معاونًا له ومن بعده للرئيس شارل حلو حتى عام 1973. واستمر في لعب دور فاعل في تحديد هوية رؤساء لبنان اللاحقين.
خلال المعركة الرئاسية التي جرت في 17 آب 1970 بين المرشحين سليمان فرنجية وإلياس سركيس، كان مجلس النواب مؤلفًا من 99 نائبًا. وقد فاز فرنجية على سركيس بفارق صوت واحد (50 مقابل 49). وقيل إن الصوت الذي أدى إلى فوز فرنجية بالرئاسة كان صوت كمال جنبلاط.
ومع ذلك، وخلال عهد فرنجية، بقي جنبلاط في موقع المراقب والناقد. وفي منتصف السنة الثانية من ولاية فرنجية، أعد جنبلاط وثيقة تضمنت نقدًا وتوجيهًا، ودعا إلى مؤتمر صحفي عقده في مركز الحزب التقدمي الاشتراكي في 8 شباط 1972. تضمنت الوثيقة مبادئ أكدت دور رئيس الجمهورية كرمز للسلطة والاستقرار الدستوري، مع الحفاظ على استقلاليته وعدم مسؤوليته السياسية. كما شددت على ضرورة التزامه بالقوانين والأعراف البرلمانية، وعدم التدخل المباشر في شؤون الحكم.
فكر فلسفي وانساني
لم يكن كمال جنبلاط مجرد رجل سياسة، بل كان مفكرًا متعمقًا في الفلسفة الشرقية، خاصة الهندوسية والبوذية. انعكس هذا الاهتمام في كتاباته التي تناولت معنى الوجود والبحث عن السعادة الروحية. من أبرز مؤلفاته “أدب الحياة” و”فرح”، حيث دعا إلى حياة متوازنة بين المادة والروح، قائمة على حب الإنسان والطبيعة.
آمن المعلم بأن التغيير يبدأ من الإنسان ذاته، وبأن البناء الحقيقي يبدأ من بناء الذات وتهذيب الروح. تميزت نظرته للحياة بالعمق والتأمل، ما جعله رمزًا إنسانيًا تتخطى أفكاره حدود لبنان.
تحلّ ذكرى ميلاد المعلم كمال جنبلاط هذا العام وسط غياب الاحتفالات التقليدية على ضريحه، نتيجة الظروف الصعبة التي يمر بها لبنان بفعل تداعيات العدوان الإسرائيلي. لكن الأمل الذي زرعه كمال جنبلاط في قلوب محبيه، والنضال الذي كرّس حياته له من أجل الحرية والسيادة، سيبقى حيًا. فالغرسة التي بذرها بفكره ونضاله ستنبت ورودًا لا تذبل، وتظل شاهدة على إرثه العريق وملهمًا للأجيال القادمة
ذكرى ميلاد المعلم ليست فقط استذكارًا لرجل صنع التاريخ، بل هي دعوة لإحياء قيمه وأفكاره من خلال التمسك بالقيم الوطنية، واحترام التنوع، والعمل من أجل دولة مدنية عادلة.التي نحن بأمسّ الحاجة إليها اليوم