أخباركم – أخبارنا
كتبت د جمال قرى
يحيل الواقع الجديد في منطقتنا الذي بدأ بالارتسام منذ لحظة أكتوبر 2023 في غزة وفلسطين عبر حماس، وانعكس في اليوم التالي انخراطاً بالحرب الدائرة دعماً واسناداً من قِبل ما أُطلق عليه اسم محور الممانعة والمقاومة (ممانعة ماذا؟) بدايةّ، ليتحوّل إلى حرب عاتية بين حزب الله وإسرائيل دمرّت البنيان والبشر في مناطق عدة في لبنان، وهجّرت السكان، وقضت على قادة المحور السياسيين والعسكريين والمقاتلين والداعمين ما أصابه بضربة يصعب عليه العودة إلى ما قبلها. وبمجرّد قبول هذه “الممانعة” في لبنان بتطبيق القرار الأممي 1701 ولو بشروطٍ صعبة جعلته يبدو وكأنه تحت الفصل السابع وبوصاية دولية برئاسة الدولة المعتبرة العدو الأكبر وبشروط إسرائيلية واضحة وبموافقة إيرانية، فُتحت في سوريا معركة إسقاط بشار الأسد ونظامه، لم تستمر لأكثر من 10 أيام، لتنهي فصولاً من حكم نظام البعث الذي دام لأكثر من نصف قرن، قامت بتنفيذها جبهة “هيئة تحرير الشام” بقيادة أحمد الشرع المعروف بأبو محمد الجولاني المنحدر من تنظيم القاعدة والمتدرّج إلى جبهة النصرة وصولاً إلى إعلانه عن نيته التخلي عن هذا التاريخ؟ وتجدر الإشارة إلى أن الشعب السوري الذي بدأ مظاهراته السلمية في آذار 2011 لإسقاط النظام الاستبدادي، بدءًا من الأرياف وصولاً إلى المدن، واجهه هذا النظام بأن عسكر هذه الانتفاضة واستجلب الفئات الأصولية المرتبطة بعدة دول خارجية وقمع الشعب وقتل منه على مدى السنوات الـ 13 الأخيرة مئات الالاف وشرّد وهجّر أكثر من 10 ملايين سوري. على أن رأس النظام، استعان كذلك بعناصر من حزب الله اللبناني للقضاء على الثورة السورية، ومن ثم بالنظام الإيراني ومن بعده الروسي للحفاظ على نظامه. يُضاف إلى هذا كله، أن سوريا تحوّلت ساحة عالمية وإقليمية للصراع ما أدّى إلى شرذمتها وتفتّتها وتحويلها إلى مربّعات أمنية تمارس الموبقات على أنواعها. لم يشفع كل هذا لرأس السلطة بالبقاء، بل كُسر وهرب من البلاد، تاركاً وراءه جبالاً من المآسي والانهيارات المجتمعية والاقتصادية وسجوناً باتت تصرخ من كمّ العذابات والقتل فيها.
يدفع هذا الملخص إلى استنتاجات وتساؤلات ليس في سوريا وحدها فقط، بل أيضاً في لبنان وفلسطين ودول المشرق التعيسة، ولا توجد عليها أجوبة بعد، وربما سوف تطول المدة لفهم ما جرى ويجري. لماذا لم يسقط النظام إلا بالأمس؟ هل أسقطته الثورة السلمية الشعبية التي قامت في 2011 وتراكمت حتى وصلت إلى هنا، أم أن الفصائل المسلحة لأبو محمد الجولاني هي من نفّذت حكم إنهاء النظام، ومن هي الدول صاحبة المصلحة بوضع حدٍّ للنظام بعد أن تيّقنت من عقم سياساته وقلّة استيعابه للمتغيرات الحاصلة؟ هل كان بوسع الشعب اسقاطه لولا هذه الحركة الأخيرة؟ لماذا على لبنان أن يعيش حرباً مدمّرة كل بضع سنوات؟ هل العلّة في الأنظمة السياسية، أو في المكونات الاجتماعية والدينية والطائفية والإتنية؟ لماذا لم تقم على مدى السنوات التي تلت الاستقلالات الدولة الوطنية؟ وهل ظروف قيام هذه الدولة متاح؟ ولماذا تتحول هذه الدول إلى ساحات غبّ الطلب عند كل أزمة؟ لماذا لم تُفلح الأفكار القومية والاشتراكية واليسارية والدينية في تقديم نموذج طبيعي دائم وفاعل للدولة؟ هل يكمن الاستعصاء بالوعي لدى المكونّات ورفضها لأي نموذج لا يتقاطع مع إيديولوجيتها ما يحوّلها إلى مجموعات متناحرة؟ أو هل يمكن أن يكون هذا الاستعصاء ناجم عن كون هذه الفئات فئات محافظة كل في بيئتها ترفض الفئة الأخرى حفاظاً على نقاوة الفكرة والمجموعة؟ …
تستمع إلى تحليلات وآراء عاملين في السياسة والاجتماع وفيها الكثير من الأشياء المهمّة. إلا أن ما يستوقف المرء، هو استخدام جلّ هؤلاء لأدوات تحليل مضى عليها الزمن، ما يُفقد التحليل القدرة على استشراف الآتي، لأنه لا يأخذ بالاعتبار المتغيرات الحاصلة في المجتمعات والإقليم والعالم. أن تقف عند نفس طريقة التحليل، يجعلك تعود للوراء. بحاجة لسماع خطاب جديد يشرّح الواقع خارج السرديّات الممانِعة الممجوجة والمظلوميات والبكائيات ورمي المسؤوليات على الخارج والغرب، التي أثبتت حتى الآن عقمها في إقامة دولٍ حقيقية. هل لدى الفاعلين والمهتمين والمثقفين والمفكرين القدرة على اجتراح سرديّات جديدة أو أفكار تؤسّس لمجتمعات فعلية خارج المُستهلَك والمُكرّر. أظن أن ذلك ممكناً. لقد سئمنا من الحروب والموت المجاني.
