كتب جورج حايك:ليس سراً أن الثنائي الشيعي يضع يده على كل مفاصل البلد، وقد سقطت المؤسسات الرسمية الواحدة تلو الأخرى في مصيدته بفعل فائض القوة الناتج عن سلاحه، ولعل آخر الحصون المهددة كان الحصن المالي ونعني به حاكمية مصرف لبنان من خلال استلام نائب حاكم المصرف وسيم منصوري من الطائفة الشيعية مهمات الحاكم بعد النيابة العامّة التمييزية المأخوذة بالمونة والنيابة العامّة الماليّة بحكم الوصايا الطائفية، ومثلها ديوان المحاسبة، وللثنائي الكلمة الفصل في مديرية المخابرات إضافة إلى التوقيع الثالث في الدولة اللبنانية وهي وزارة المال. مما يعني أنّ لهذا الثنائي القرار المالي التنفيذي والقرار المالي الرقابي.
لكن رئيس مجلس النواب نبيه بري غير مطمئن لتسلّم منصوري رغم انه محسوب عليه، إذ لن يكون مؤثراً بصلاحيات عادية ويحتاج إلى صلاحيات استثنائية، فيما هو مرغم على اتخاذ القرارات الماليّة في المجلس بالإجماع، مما سيجعل موقفه ضعيفاً في مجلس مركزي يسود الخلاف بين أعضائه. وبالتالي لن يستطيع منصوري الخروج من عباءة رياض سلامة.
لذلك، رسم بري مع رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي خطة تقضي بدفع نواب حاكم مصرف لبنان إلى التهديد بالاستقالة وإحداث بلبلة، بغية اقناع البطريركية المارونية و”القوات اللبنانية” بتغطية تعيين حاكم جديد لمصرف لبنان مسيحياً ويكون محسوباً على الثنائي الشيعي، فيؤمّن “حزب الله” نصاب جلسة حكوميّة تقر هذا التعيين. لكن الخطة فشلت، إذ كان الرفض واضحاً من “القوات اللبنانية” التي رفضت أي تعيين لحاكم جديد في ظلّ الشغور الرئاسي، وخرج البطريرك مار بشارة بطرس الراعي بعظة ليعلن رفضه بالمطلق لـ”تعيينات الضرورة”، فأيقن بري وميقاتي ان الفيتو المسيحي وضع حداً لطموحاتهما ما بات يستدعي خطة جديدة للتعامل مع ازمة الحاكميّة!
لقد سقط “ارنب بري” أي تهديد نواب الحاكم الأربعة بالإستقالة، بل لم يعد مطروحاً، وربّ قائل إنّ الثنائي الشيعي لم يكن ينتظر نيابة الحاكم ليحكم بسيفه، ففي مجلس النواب وبقيادة رئيسه كانت تُحاك سياسات الدولة وتُشرّع أبواب الميزانيات وتُفتح على مغاربها، وحتى سلامة كان يراعي التوازنات ويقف على خاطر الثنائي الشيعي بالشاردة والواردة ولم يجرؤ مرة على إغضاب “حزب الله”.
أما من يتحدث عن تمايز بين “أمل” و”حزب الله” حول هذا الموضوع فهو واهم، فهناك تحالف استراتيجي بين الجانبين، وهما يتجاوزان التفاصيل والهوامش إلى ما هو أساسي، أي يحافظان على الرؤية المشتركة وهي ضرورة تكريس التوقيع الثالث في الدولة اللبنانية أي وزارة المال من حصة الطائفة الشيعية لضمان التحكّم بالقرار المالي في الدولة.
فقد خاض الثنائي الشيعي معركة من أجل الحصول على وزارة المال أو محاولة تكريسها منى حصة الطائفة الشيعية عندما أراد مصطفى اديب تشكيل حكومة متوازنة، وواجه تعنّت الثنائي في المحافظة على هذه الحقيبة بهدف اضافة التوقيع الشيعي إلى توقيعي رئيس الجمهورية ورئيس مجلس الوزراء في القرارات الصادرة عن المجلس التنفيذي، متحججاً بالميثاقية في تركيبة النظام اللبناني-الطائفي والمذهبي، علماً ان الميثاقية تعني المناصفة بين المسيحيين والمسلمين وليس بين المسيحيين والسنّة والشيعة. وفُهِمَ من ذلك أنها خطوة نحو المثالثة أي استبدال ما هو قائم من مناصفة في المجلسين النيابي والوزاري بين المسيحيين بكل مذاهبهم والمسلمين بكل مذاهبهم، بصيغة “المثالثة” المقنّعة، مع ما يعنيه من “سلبطة” على حقوق المسيحيين وتهديد لإتفاق الطائف الذين يضمن المناصفة بيين المسيحيين والمسلمين ولا يكرس أي حقيبة وزارية بإسم طائفة معيّنة، وهنا انتهاك واضح للدستور اللبناني الذي يضمن المداورة.
لكن حذار فقد ينقلب السحر على الساحر، وتغريدة رئيس حزب “التوحيد العربي” وئام وهاب تعتبر مؤشراً إذ كتب:”المدعي العام المالي شيعي. وزير المال شيعي، وسعي محموم لتسليم وسيم منصوري مصرف لبنان رغماً عنه. الهدف تحميل الثنائي الشيعي مسؤولية إنهيار مالي كبير وفرض رئيس للجمهورية. من ينفذ هذه الخطة الجهنميّة؟”.
ويبدو ان هذا الكلام يتطابق مع مخاوف بري الذي سعى إلى تعيين حاكم اصيل لمصرف لبنان من الطائفة المسيحية، فهو خائف من جعل السياسة النقدية في البلد ككل من مسؤولية عين التينة في مرحلة هي الاصعب في تاريخ البلد باعتبار ان محسوبين عليه يتولون وزارة المال والنيابة العامة المالية وديوان المحاسبة، مما يعني عاجلا او آجلا تحميل رئيس “أمل” تبعات اي اضطرابات مقبلة بسعر الصرف واي “استشراس” للانهيار المالي.
صحيح ان هذا السيناريو افتراضي، إلا أن لا شيء يمنع حصوله، فالبلد “على كفّ عفريت”، وكل المعطيات تؤكد أن الاستقرار المالي الذي يعيشه لبنان مؤقت وهشّ، وربما تزعزع في اليومين الفائتين من خلال ارتفاع وهبوط بسعر صرف الدولار، مما يُنذر بعواصف آتية، قد تحرق أصابع الثنائي الشيعي وتجعله عرضة لإحتجاجات ضخمة تحمّله مسؤولية درجات جديدة من الإنهيار، وقد تفرض عليه تنازلات في القبول برئيس جمهورية لا قدرة للثنائي بالتحكّم به، فهل يكون شهر أيلول مسرحاً لأحداث تغيّر المشهد السياسي؟