الجمعة, يناير 17, 2025
15.4 C
Beirut

شاعر النقاء الرعوي والتفتح المشمس للمجازات!

نشرت في

أخباركم – أخبارنا/ في تكريم طلال حيدر على مسرح كركلا

لا أعرف إذا كانت الصدفةُ وحدَها هي التي أمْلت على وزير الاعلام , أن يجعل من هذا اليوم بالذات موعداً لتكريم طلال حيدر , ومن هذه القاعة دون سواها المكانَ الملائم للإحتفاء بشعره الفريد . ولكنّ التئامَ هذا الاحتفال قبل أيامٍ ثلاثةٍ لا أكثر من التئام المجلس النيابي لانتخاب رئيسٍ للجمهورية , يتيح لمن يريد المقارنة أن يَخلُص الى الاستنتاج بأن الفارقَ بين قاعةٍ وقاعة , هو الفارقُ نفسُه بين سطوح الأوطانِ وأعماقِها . ففي حين لا يكفُّ البعضُ من سياسيي الغفلة, ونظامِ الفساد والتحاصصِ الطائفي عن تقليصِ دور لبنان , حتى لا يكاد يطابقُ حجمَه الضئيلَ على الخارطة , يتنادى في هذه القاعة كتابٌ ومبدعونَ وفنانون , من ورثة جبران والريحاني وسعيد عقل والأخوين رحباني وفيروز وميشال طراد , ليتحلقوا وقد أُعطيَ لهم بعد البطاركةِ العظام مجدُ لبنان , حول أحدِ أكثرِ الشعراء صلةً بالقلب والمفارقاتِ المدهشة وأمومةِ الجذور . ولأن معنى لبنانَ الحقيقي هو معنىً معرفيٌّ بامتياز , فاسمحوا لي باسمكم جميعاً , وبصرف النظر عمن سيتربّع على عرش السياسة في الكّيان البالغ الصغر, أن أعلن طلال حيدر رئيساً لجمهورية الخيال الشعري في دولة لبنان الكبير .
وإذا كان الشعرُ العظيم هو الابنَ الشرعي للبداهة والموهبة وتمزقات القلب , لا ذلك الذي تُنتجه العقولُ والأفكار في معامل الحذلقة والتعسف التأليفي , فليس على المرء سوى العودة الى كتابات طلال حيدر لكي يقفَ على الخلطة الأكثر نجاعةً للابداع , حيث الكتابةُ رقصٌ بارعٌ مع القيود , واصطيادٌ ماكرٌ لبرق الرأس . وفي هذا العالم الفردوسي الخلاصي , عالمِ ما قبلَ الخطيئة , الذي اجترحهُ طلالُ من عندياته , يتماهى عواء الشهوات مع تفتُّح الأنوثة البتوليّ , وتتقافزُ صغارُ الأقمار على سطوح المدن , فيما تتكفّلُ اللغةُ المجردة, بعقد المصالحات بين الأضداد , فلا يتوانى الملاكُ والشيطانُ عن تبادل الأنخاب , فيما البراءةُ والإثمُ ينامانِ في سرير واحد .
وفي نشيدِ أناشيدِه الجديدِ هذا , حيث الشعرُ معلقاتٌ على الريح , واحتفاءٌ بالمفقوداتِ , يلقي طلالُ على عاتق مخيلتهِ الهذيانية, مهمةَ التنقيب عن الدلالات الممحوة للحروف , التي تلبس حيناً لبوسَ يثربَ والأندلس وفلسطين , ولبوسَ الأنوثةَ الكونيةَ حيناً آخر . كما يظهر من جهة أخرى, وكأنه أورفيوسُ البقاعيّ الذي آثر التضحية ببعلبكَّ الواقع , لكي يخترع من عندياته بعلبكَّ التخيل , حتى إذا شرعت أصابعُهُ الراعشةُ بالعزف على أوتار الفقدان , أصيبت الأشجارُ بالثمل , والصخورُ بالطراوة , والنجومُ بالحنين الدامع , فيما خرجت من أوكارها نسورُ القرنةِ السوداء, لتُدَوْزِنَ تحليقََها على إيقاعِ كلماته .
ومع ذلك فإن الحرمانَ وشظفَ العيش لم يكونا الممرَّ الالزاميَّ للكتابة عند طلال حيدر , بل بدا شغفُه باللغة, جزءاً لا يتجزأُ من شغفهِ بجمال الوجود , كما لو أنه مزيج غرائبيُّ الطقوس , من عروةَ بن الورد وزرياب وعمرِ الخيام وغارسيا لوركا وزوربا اليوناني وعبدِ الحليم كركلا . وإذا كان أحدُ المفكرين قد أعلن استحالةَ الجمعِ بين الكتابة والاشباع الشهواني , وبأن ” الشفاه لا تغني إلا حين تعجز عن التقبيل “, فقد كان بوسعِ طلال, أن يضرب هذه المقولةَ بعرض الحائط , حيث الشفاهُ في قاموسه الحيدري , تستطيعُ في الآن ذاته أن تقبِّلَ وتغني , وان تتعهَّدَ بالتلمظ, كلَّ ما تقعُ عليهِ من عسل المسرات, ونهودِ النساء .
وخلافاً لمعظم الشعراء العرب ,لا نعثُرُ في شعر طلال على تفجعٍ كربلائيّ أو تلذذٍ مازوشيٍّ بالألم , بل ثمة فرحُ بالوجود, يلاقيهِ في منتصف الطريق فرحُهُ باللغة, التي تبتعد عن الإنشاء السقيم والشروح المملة , لتتحلَّقَ حول نُواتها كما تفعل الينابيع , والتي لا حاجةَ بالشاعر لإيصالها الى الملأ , لأن الوردةَ لكي تؤدي الوظيفة المنوطةَ بها , لا تحتاج للذهاب الى أي مكان , بل يتكفلُ عطرُها بالمهمة , تماماً كما هو حالُ الشجرةِ مع الثمار , والنجمةِ مع التلألؤ الدامع , والبيوتِ مع الذكريات .
أما الجانب الاستشرافي في شعر صاحب ” آن الأوان “, فأظنني لا أحتاج الى شواهد كثيرة للدلالة عليه, وأظنه كافياً الاستشهاد بقوله النبوئي ” حلوه متل طلوا العرب \ رح يوصلوا عالشام ” لأقول له لقد وصل العرب الى الشام , يا صديقي , تماماً كما تنبأت قبل سنوات في مطلع قصيدتك.
وإذا كانت المقايضةُ , أخيراً , جائرةُ وغيرَ عادلةٍ بين الجسد والكتابة , فإنهم نادرون يا طلال أولئك الذين دفعوا مثلك ثمنَ ما مُنحوهُ من كنوز الكلام الموحي . فلقد بُحّ صوتُك لكثرة ما ناديتَ على ذئاب الشتاءات , وانكسر ظهرُكَ لكثرةِ ما حمّلتَهُ من أثقال التوريات وأوزار المعاني , وانطفأت عيناك, لكثرة ما تفرستَ في طرائد اللغة وحدقتَ في جمال العالم .
يا طلال حيدر , دلني على لغة تشبهك, لكي تستطيع كلماتي عنك أن تجانب الوقوع في الرطانة , وعلى قميصٍ له جمالُ قمصانكَ اليوسفيةُ لكي أغوي به زليخات التمنع , وعلى وطنً يشبهُك لكي ألوّح له بمناديلِ التضرُّع, وقيامات الرجاء .
يا طلال حيدر , إننا نحبك .

شارك الخبر:

اضغط على مواقع التواصل ادناه لتتلقى كل اخبارنا

آخر الأخبار

غوتيريش وصل إلى بيروت

أخباركم-أخبارنا وصل الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش على رأس وفد أممي إلى مطار رفيق...

جنبلاط يبحث المستجدات مع السفيرة الاميركية

أخباركم - اخبارنابحث الزعيم وليد جنبلاط في كليمنصو اخر المستجدات مع السفيرة الاميركية ليزا...

بولا يعقوبيان: الخارج كان يريد ميقاتي

أخباركم ـ أخبارنا استؤنفت الاستشارات النيابية غير الملزمة في مجلس النواب في جولتها...

حماقات: الاستاذ نبيه مسؤول عن الزعران .. ماذا عن جوزف عون و والقاضي نواف سلام! (فيديو)

أخباركم = أخبارنا في حماقات سنشاهد زعران نعتبر الاستاذ نبيه بري مسؤول عنهم كما...

More like this

هذا ما حصل في “التيار” مع ابنة باسيل

خاص: أخباركم - أخبارنا تسلمت يارا، ابنة رئيس التيار الوطني الحر النائب جبران باسيل،...

كوب من الحليب يوميا.. سلاح في مواجهة سرطان شائع

أخباركم - أخبارنا كشفت دراسة حديثة أجرتها جامعة أكسفورد أن شرب كوب كبير من...

فائدة شرب الماء على معدة فارغة صباحا

أخباركم - أخبارنا يفيد شرب كوب من الماء في الصباح على معدة فارغة قبل...