أخباركم – أخبارنا/ ميشال ن. أبو نجم
ليست المرة الأولى التي يواجه فيها التيار الوطني الحر تحدياتٍ في تموضعه السياسي، وخاصة لجهة بروز مراكز قوى تأمل الحلول مكانه أو القضم من بيئته. فمنذ التسعينات، والبعض ينعي وجوده وحيثيته. مرحلة فرض الرئيس إميل لحود رئيساً للجمهورية بقرار دمشق، والأمل بالقضم من شعبية “التيار”، عيّنة من هذا التفكير المطبوع في ذاكرة العونيين. التحدي الآن مختلف. بذة الجيش تؤدي إلى ضبابية في تعيين الحدود، يضاف إليها إسم العائلة المشترك. خصوم “يركبون” الموجة، وبعضُ إعلامٍ يحور الأنظار.
هو ليس بسر، أنَّ “التيار” عارضَ بقوة وصول الرئيس العماد جوزاف عون كمرشح للرئاسة، وبذلك، أملَ خصومه بتراجعه أو بتلقيه ضربةً قاسية. لكن تبين نتيجة الأيام الأخيرة، أن “التيار” سرعان ما حوّل التحدي إلى فرصة، لا بل إلى مكسبٍ سياسي يحتاجه بقوة في هذه المرحلة الإنتقالية.
والمفارقة بحسب أوساط “التيار”، أن خصومه الذين فُرض عليهم انتخاب العماد جوزف عون فرضاً، سرعان ما حاولوا إشراك أنفسهم في “الإنجاز” كما فعلوا بعد سقوط النظام السوري. لا بل أنهم ذهبوا إعلامياً كالعادة، إلى التشفي وتحويل خيبتهم بفرض إسم عون عليهم، إلى منصة للهجوم على “التيار”، واعتباره مهزوماً.
لكن في مقلب “التيار”، قراءة مختلفة، مدعومة بالوقائع.
فهو أولاً، حافظ على صورته المبدئية والمنسجمة مع نفسه في رفض تعديل الدستور لمصلحة شخص، إضافةً إلى الأسباب السياسية الأخرى التي دفعته لمعارضة جوزاف عون. وفي شعاره “السيادة والدستور” الذي وضعه في صندوق الإقتراع، أبرزَ رفضه للتدخلات الخارجية التي كانت شديدة القساوة في التعبير عنها، وكذلك في التزامِه أحكامَ الدستور الذي بات منصة للإنتهاك عندما تعجز الطبقة السياسية اللبنانية عن إيجاد المخارج.
وما سبق الأيام القليلة الفاصلة عن تسمية السفير نواف سلام رئيساً مكلفاً، كان خير معبّر عن القوة التي يحتفظ بها “التيار”. تكشف المعلومات أن التواصل بدأ بعد عملية الإنتخاب بين الرئاسة وقيادة “التيار”، وسط تبادل رسائل إيجابية، وعبّر عنها الرئيس عون في شكل واضح خلال لقائه تكتل “لبنان القوي” في الإستشارات. هو إذاً تصفير للخلافات السابقة.
هذه الإيجابية، استدعت إيجابية أكبر من “التيار” ورئيسه جبران باسيل الذي رمى الكرة في شباك التوجهات الإصلاحية التي رفعها الرئيس العماد ميشال عون، وأعاد تأكيد عناوينها الرئيس “جوزاف” في خطاب القسم، حتى لو سقطت منه عبارة “التدقيق الجنائي”. من هنا، تصبح ولاية عون، فرصة لتنفيذ العناوين الإصلاحية في ظروف دولية وإقليمية مؤاتية لم تتوفر في عهد الرئيس السلَف الذي واجه غضب الولايات المتحدة وتهديدات مارك بومبيو نتيجة رفض “التيار” الإنزلاق إلى فتنة مع حزب الله آنذاك. على أن هذه الفرصة، مرتبطة بالتطورات السياسية، وبنيّة الرئيس “جوزاف” عدم الدخول كطرف مع القوى والشخصيات المخاصِمة للتيار، وهذا غير موجود، أقله حتى الساعة.
من هذا المنظار، يمكن فهم تصريح جبران باسيل من باب قصر بعبدا خلال الإستشارات، وصولاً إلى وضع كتلة “التيار” بتصرف “العهد” دعماً له. فالمعارضة المبدئية، لا تعني بالنسبة للتيار إلا انسجاماً مع سلوكه في المبدئية في الرفض والمواجهة، والتلاقي على المساحات المشتركة حين تتوفر النيات الإيجابية.
الإيجابية مع الرئاسة انسحبت أيضاً على تأييد نواف سلام. وفي تاريخ العلاقة مع جبران باسيل شخصياً كوزير للخارجية، وما يمثله إبن العائلة البيروتية العريقة من مميزات إصلاحية، الأمر الذي يعزِّز من دعم “التيار” لسلام.
وما سبق تسمية سلام، كان خير معبّر عن الوزن السياسي الذي يحافظ عليه “التيار”، وحسَم بحسب المعلومات وجهة عدد من الكتل، وعلى سبيل المثال “الإعتدال” و”التوافق الوطني” و”اللقاء الديموقراطي”. الإتصالات لم تتوقف مع “التيار”، بما فيها تلك التي استمزجته في مسألة محاولة “الثنائي” تأجيل الإستشارات، فكان الرفض قاطعاً لتكريس سابقة في تجاوز الدستور. وفيما كان البعض ينتظر إيحاءات خارجية، كان “التيار” رافضاً بقاء نجيب ميقاتي في السرايا على الرغم من كل العروض والوسطاء الذين فاقوا العشرة، مُعزَزاً بتوثب قاعدته لهذا الرفض والتطلع إلى خيارات بديلة واعدة.
هذا التكريس للحضور والدور، والذي لاقى صدىً شعبياً إيجابياً، يراه “التيار” طبيعياً فيما يؤمن به ويعمل لأجله.
وفيما تُفتح صفحة جديدة، يتجه “التيار” إلى استنهاض قاعدته على عتبة انتخابات بلدية مُرجَّحة، ونيابية مُحتّمة في الـ2026. فبعد اجتماعات متلاحقة للمجلس السياسي والكوادر الحزبية الثلثاء، كان جبران باسيل يعيد التذكير بمحددات التفكير السياسي الُمشيدة على أسس ثابتة، لا تلك التي تميل مع الرياح العاطفية والسياسية. فلا أمر ثابتاً إلا مصلحة لبنان، والعمل على التغيير والتفاهم وتقديم ما هو حديث ومتجدد في السلوك السياسي، بالتوازي مع رفض سلوكيات التهميش والإقصاء والتطرف.
ولا بد أولاً من تمرير الإستحقاق الحكومي، لكي يبني عليه لا “التيار” فحسب، بل اللبنانيين جميعاً، التعاطي مع المرحلة القادمة والتي يأملون بأن تكون أفضل حالاً مما سبق.