كتب جورج حايك:
لا ينقص الجيش اللبناني إلا الحرب مع اسرائيل “ليكمل النقل بالزعرور”، فهو يولي السلم الأهلي درجات اهتمام قصوى، وخصوصاً ان لبنان يمر بأزمة سياسية محورها الاستحقاق الرئاسي، ومعظم القوى السياسية مستنفرة ومستعدة. من هنا ينهمك الجيش بالمحافظة على الأمن، علماً أن لبنان يستفيد من موسم سياحي باهر ومتألق، وليس من مصلحته خوض أي حرب مع اسرائيل.
لكن ما يجري جنوباً من احتكاكات بين “حزب الله” واسرائيل، طرح تساؤلات عديدة أهمها: هل يورّط “الحزب” المؤسسة العسكرية بحرب ضروس؟
لا شك في أن “الحزب” ليس في أفضل أيامه على صعيد الأزمة السياسية الداخلية بعد تعثره في انتخاب مرشّحه سليمان فرنجية رئيساً، وإدراكه بأن هناك توازنات في البلد لا يمكن أن يتخطاها، إضافة إلى ان الوضع الاقتصادي المتردي يدفع الشعب اللبناني إلى تحميله المسؤولية المباشرة كونه المهيمن الأول على مؤسسات الدولة والجهة التي تدير لبنان داخلياً وخارجياً بفعل فائض القوة العسكري، لكن ليس لمصلحة لبنان إنما لمصلحة المشروع الايرني.
في الجانب الآخر تبدو اسرائيل منهمكة في الملف الداخلي وحالة الاعتراض الشعبية على قرارات رئيس الحكومة الاسرائيلية بنيامين نتنياهو، لذا يرى بعض المراقبين ولا سيما الديبلوماسيين الغربيين منهم، أنه قد تكون مصلحة اسرائيل و”الحزب” بالتوتير جنوباً من خلال خطوات استفزازية متبادلة، وهناك من يتكلّم عن إمكانية هروب الطرفين إلى معركة محدودة لبضعة أيام، ليصرفاها كل من جهته في الداخل.
لكن ثمة من يخالف هذه المقاربة، ويرى ان التصادم غير وارد بسبب الاتفاق الضمني القائم بين ايران واسرائيل على خلفية ترسيم الحدود البحرية الذي حصل في أواخر 2022، علماً أن هذا الاتفاق تم بموافقة “حزب الله” ومباركته، لذا التوتر سيبقى تحت السيطرة.
واللافت إن المناوشات الحاصلة على الحدود الجنوبية منذ فترة ويتولّى دور البطولة فيها ما يسمّى “الأهالي”، ليست سوى إعادة رتيبة لمسرحية مملّة يعرضها “حزب الله” في كل مرة يكون فيها مأزوماً، وغير قادر على فرض هيمنته في الداخل حول استحقاق ما. واليوم القضية التي يصطدم بها “الحزب” ويتلقى مواجهة عنيدة وصلبة ويفشل فيها، عنوانها الأساسي الاستحقاق الرئاسي.
فـ”الحزب” لا يريد الحرب ولا يجرؤ على فتحها اليوم بشكل مباشر لإدراكه بأن الوضع اللبناني لا يحتمل، وأن نتائجها ستكون مدمّرة على لبنان وعلى بيئته اللصيقة وسيُحمّل المسؤولية. لذلك هو يستغل “الأهالي” ويتلطّى خلفهم لتوجيه رسائل للداخل والخارج والقول إنه هنا ولا يزال قوياً، لعلّه بذلك يستدرج عروضاً لعقد صفقة معه. من دون أن نغفل المفاوضات النووية الحاصلة بين واشنطن وطهران من الصورة، فالجميع يدرك أن قرار الحزب النهائي في طهران لا في حارة حريك.
لكن اسرائيل و”الحزب” ليسا الطرفين الوحيدين حدودياً، فهناك الجيش اللبناني الذي يتعامل مع الوضع بجدية ومسؤولية كبيرة، وجنوده اتخذوا وضعية الاستنفار مرات عدة في المناوشات الأخيرة، من هنا تأتي المخاوف من توريط الجيش بحرب مع اسرائيل لا توازن عسكري منطقي فيها. وما يعزز هذه الفرضيّة ان عقيدة جنوده موجّهة ضد اسرائيل، وهو لا يقل عدائية عن “الحزب” حيال الاعتداءات الاسرائيلية، إلا أن هناك خيط رفيع يفصل بين الرؤيتين الاستراتيجيتين للجيش و”الحزب”، فالأخير لا يبالي بالمصلحة اللبنانية ويعمل بأجندة ايرانية، بدليل انه قام بحرب تموز من دون حسابات تأخذ في الإعتبار الوضعية اللبنانية وقدرة الدولة على تحمّل مثل هذه الحرب،١ض وهو يعتبر ان انتهاء الحرب وهو على قيد الحياة يشكل انتصاراً ما بعده انتصار من دون الاكتراث للكوارث التي خلفتها هذه الحرب، وهذا أمر طبيعي كونه يتعامل مع لبنان كساحة من ساحات مواجهاته مستخدماً الشعب اللبناني كأكياس رمل ومحولاً الأرض اللبنانية إلى أرض محروقة، فيما الجيش اللبناني يعمل بقرار السلطة السياسية التي ليس “الحزب” صاحب القرار الوحيد فيها، ولقائد الجيش العماد جوزف عون رأي في أي حرب ممكن أن ينخرط فيها الجيش لأنه يعرف قدراته وطاقته، وبالتالي يُدرك عون ان لقرار 1701 الذي وافق عليه “الحزب” أكّد على أهمية بسط سيطرة حكومة لبنان على جميع الأراضي اللبنانية وفق أحكام القرار 1559 (2004) والقرار 1680 (2006) والأحكام ذات الصلة من اتفاق الطائف، وأن تمارس كامل سيادتها، حتى لا تكون هناك أي أسلحة دون موافقة حكومة لبنان ولا سلطة غير سلطة حكومة لبنان، كما يعرف عون أن العبرة الأساسية من حرب تموز 2006 أنه طالما قرار الحرب خارج الدولة فإن مصير اللبنانيين سيبقى الموت والهجرة والعذاب، وعبثاً البحث عن حلول قبل استرداد قرار الدولة المصادر من قبل “حزب الله”.
وهناك اعتبارات عديدة تمنع الجيش اللبناني من التورّط في اي مواجهة عسكرية مع اسرائيل، أهمها أن الأميركيين استثمروا كثيراً في الجيش واعتبروه المؤسسة الرسمية الوحيدة التي لا تزال قائمة وصالحة في لبنان، وقد تلقّى الجيش بقيادة عون مساعدات عسكرية ومالية من الأميركيين الذين لن يسمحوا بأي مواجهة بينه وبين اسرائيل، من خلال منع الأخيرة من الإقدام على أي حرب وشيكة، من هنا يُفهم تحرّك الموفد الأميركي آموس هوكشتاين إلى الشرق الأوسط ولعبه دوراً في إعادة الحياة إلى ملف الترسيم البري للحدود اللبنانية-الاسرائيلية. أما النقطة الثانية فهي من خلال وجود قوات “اليونيفيل” التي تعمل مع الجيش لنزع فتيل الانفجار وليس تأجيجه. أما النقطة الثالثة، فهي تتعلق باسرائيل التي تعرف ان مواجهتها مع الجيش اللبناني خاسرة سلفاً حتى ولو كانت متفوقة عسكرياً، لأن الشعب اللبناني يحبّ الجيش وموحّد خلفه، عكس “الحزب” الذي هناك انقسام عمودي حوله. وبأي مواجهة لاسرائيل مع الجيش سيكون موقفها ضعيف دولياً، وسيكون عمر أي معركة قصير جداً، لأن عواصم القرار لن تدع لبنان يحترق وهو في وضع اقتصادي ومعيشي منهار!
صحيح ان “حزب الله” يعرف كل هذه الأمور، لكن قيادة الجيش تتميّز بالحكمة والعقلانية، ولن تسمح لـ”الحزب” أن يورّطها في منازلة ستكون خاسرة للبنان الرسمي والشعبي، ارضاء لحسابات “الحزب” وأجندته الخارجية والداخلية.
وقد يكون تدخّل الجيش اللبناني عسكرياً لحماية الأهالي المدفوعين من “الحزب”، ولحماية لبنان من أي مغامرة لـ”الحزب” بواسطة الأهالي، وبالتالي مشهد الوضعيات القتالية التي يتخذها الجيش بمواجهة الجنود الاسرائيليين تهدف إلى سحب ورقة التصعيد من “الحزب” المتّهم من اللبنانيين انه لا يفكّر بمصلحة لبنان، وهذه نقطة إضافية تجعل من دور الجيش أساسي في نزع صاعق الانفجار من رهانات “الحزب” و”اسرائيل”. ويبدو أن اسرائيل تتهيّب كل مرة تدخّل الجيش اللبناني، وهناك أمثلة عدة أهمها ما حصل في 18 كانون الثاني الفائت، عندما منع الجيش القوات الاسرائيلية من استكمال اعمالها على الحدود، وفي 5 آذار أجبر دورية اسرائيلية على التراجع بعد خرقها الخط الأزرق.