أخباركم – أخبارنا/ الكاتب السياسي يوسف مرتضى
لا يختلف المراقبون و المحللون الاستراتيجيون ان الثورة التي انفجرت في عقد السبعينيات من القرن الماضي ضد نظام الشاه الموالي للغرب في ايران قد شهدت تحولا كبيرا في سيرورتها من ثورة مدنية يقودها تحالف قوى يسارية وازنة وأساسية، تحالفت مع قوى اسلامية بقيادة الامام الخميني إلى ثورة اسلامية خالصة على المذهب الشيعي الإثني عشري بعدما تمكنت من أكل روادها الحقيقين (النقابات المهنية وحزب تودة و فدائيو خلق و مجاهدو خلق …).
و منذ أيامها الأولى، وبعدما استتب لها الأمر، وضعت قيادة الجمهورية الاسلامية في سلم أولوياتها الاستراتيجية استخدام كل الطاقات المادية و الأيديولوجية ( الشيعية السياسية )، من اجل استعادة دور ايران الإمبراطوري عبر خيار تصدير الثورة، وكأنها بذلك تستنسخ التجربة السّوفياتية ولكن بأيديولوجية دينية.
ومبكراً، أي منذ بداية الثمانينات من القرن الماضي بدأت في زرع أذرعها حيث يتواجد الشيعة حُسينيين أو حَسنيين لا فرق على امتداد الجغرافيا الإسلامية . كما عرفت وبذكاء استثنائي كيف تتبنى قضية العرب والمسلمين الأولى، أي ( القضية الفلسطينية)، في الوقت الذي تُركت فيه هذه القضية تواجه مصيرها بعد صفقة كمب دايفد المشؤومة و انهيار المشروع العربي التحرري.
عرقلة الحرب العراقية الإيرانية آلتي امتدت لثماني سنوات، أي على مدى العقد الثامن من القرن العشرين (بغض النظر عن أسبابها و نتائجها) ، مسار الاستراتيجية الإيرانية نحو الإمبراطورية لبعض الوقت و لكن دون أن تعدّل فيها أو تُلغيها .
لقد بلغ المشروع الإمبراطوري الإيراني ذروته في العهد الأول وبداية العهد الثاني للرئيس محمود أحمدي نجاد و ذلك عبر التقدم البارز في الملف النووي، وإحكام القبضة على العراق عبر المالكي، وكذا إحكام القبضة على المقاومة الفلسطينية عبر حركتي حماس و الجهاد الإسلامي، إلى تصليب العلاقة مع النظام السوري (العلوي )، والنفاذ الى البحر المتوسط عبر حزب الله في لبنان، ومد النفوذ الإيراني إلى داخل المجتمع الخليجي، (الحوثييون في اليمن، الشيعة في السعودية و في البحرين والكويت)، الى حملة تشييع واسعة في المغرب, والسودان ومصر وسوريا .
إلا أن تطورات السنوات الثلاث الاخيرة أظهرت بوضوح ان المشروع الامبراطوري الفارسي بطربوشه الشيعي قد بدأ بالاهتزاز و الانكفاء. من الشواهد على ذلك : انفراط عقد النظام في سوريا و تحول سوريا الى عبء عسكري و مادي على إيران ، هذا قبل انهياره المريع الذي شكّل انتكاسة حاسمة لاستراتيجية إيران الفارسية التوسعية، خاصة بعد الضربة القاسية التي أصابت حزب الله، درة تاج المشروع الإيراني بنتيجة حرب اسناد غزة، وحيث بينت حرب العدو الصهيوني على غزة ولبنان، غياب أي دور لإيران في مواجهتها أو في التسوية التي انتهت اليها، وشهدت هذه المرحلة أبضاً سقوط اليد الغليظة لإيران في العراق، بعد استنزاف حزب الله في سوريا ولبنان، و اضطراره للدخول في تسويات في الداخل اللبناني كان يرفضها في السنوات الماضية.
لقد أدى انهيار المشروع الإسلامي السني عبر إسقاط حكم الإخوان في مصر، إلى وقف اندفاعة المشروع الإسلامي الشيعي، ما أفقد ( الهلال الشيعي) قدرته وزخمه على التبلور، وقضي عليه بانهيار نظام آل الأسد البائد في سوريا، المترافق مع بداية بروز العامل العربي في إدارة قضايا المنطقة من خلال التحالف المصري الخليجي بعدما غاب هذا الدور في المرحلة السابقة لمصلحة التنافس التركي، الإيراني و الاسرائيلي عليها.
و أخيراً و ليس آخراً، فإن النتائج القاسية للعقوبات الغربية التي باتت تفقد ايران القدرة على توفير الإمكانات اللازمة ليس فقط لمد مشروعها الإمبراطوري بما يحتاجه للنمو، بل أكثر من ذلك، باتت تفاقم الأزمات الاقتصادية والمالية والاجتماعية التي تتحول تدريجياً إلى أزمة سياسية تهدد وجود نظام الملالي نفسه.
ما أتوقعه بضوء ذلك ، أن إيران لن تذهب في المواجهة حتى النهاية مع الإدارتين الأميركية والإسرائيلية، وفق خيار كل شيء او لاشيء، وإنما هي ذاهبة إلى السعي لتحديد خسائرها ما أمكن.
إيران تتجه نحو تسويات لمختلف الملفات تحدد فيها خسائرها بدءاً بالملف النووي، لمنع حصول الانهيار في حال استمرار الاستنزاف والحصار، و عندئذ سيكون بمقدورها بما تمتلكه من ثروات من بناء دولة قوية ومتقدمة في محيطها. وهي لن تنجو من التفتيت في حال جنحت بعض مراكز القوى فيها نحو مغامرة المساهمة في تفكيك الكيانات العربية كما تروج لذلك في سوريا والعراق، على أمل الحصول على جزء من الكعكة اذا تعذر الحصول عليها كلها.
فهل ستؤدي كل تلك المتغيرات الى تغيير في الاستراتيجية الإيرانية بعودة الإصلاحيين الى السلطة عبر بزشكيان، فتلملم طهران أذرعها و تتخلى عن حلم الامبراطورية، وتستغل ماتملكه من ثروات ومقدرات لبناء دولة حديثة قوية باقتصادها وبالنموذج المتقدم سياسيا واجتماعيا وليس فقط صاروخيا و تسليحيا ، أم ان مكابرة بعض مراكز القوى فيها سيدفعها الى المصير السوفياتي نفسه؟؟