أخباركم – أخبارنا/ الكاتب السياسي حسين قاسم
عبر التاريخ، شهد العالم العديد من حوادث الانتحار الجماعي المأساوية، التي اختلفت أسبابها وظروفها، لكنها في معظمها كانت تتصل بأسباب وجودية، سياسية، دينية أو غيبية.
فعلى سبيل المثال، في عام 1945 وقبل انتهاء الحرب العالمية الثانية، انتحر المئات في بلدة ديمين الألمانية بعد أن وصلتهم أخبار عن ارتكاب الجيش الروسي جرائم قتل واغتصاب مروعة. وذكرت بعض المصادر التاريخية أن حوالي 900 شخص أقدموا على الانتحار بطرق شتى، كإطلاق النار على أنفسهم أو تجرع مواد سامة أو الغرق.
وفي عام 1336، أقدم حوالي 4000 شخص على الانتحار بعد أن حاصر جيش الفرسان التيوتون قلعة بيلاناي في ليتوانيا. أدرك المدافعون بقيادة الدوق مارجريس أنهم لم يعد بمقدورهم الدفاع عن أنفسهم، فاتخذوا قرارًا بتنفيذ انتحار جماعي وإضرام النيران في القلعة لتدمير جميع ممتلكاتهم وكل ما قد يكون ذا قيمة للعدو.
أما في العام 1978، فقد شهدت جمهورية غيانا الأمريكية أكبر عملية انتحار جماعي في التاريخ الحديث، حيث راح ضحيتها 913 شخصًا، من بينهم حوالي 300 طفل وشاب دون سن السابعة عشرة. وقد لقوا حتفهم بتناول السم بناءً على أمر من زعيمهم جيم جونز، الذي كان يتمتع بشخصية كاريزمية ومصابًا بجنون العظمة. وكان جونز مؤسس طائفة “معبد الشعوب”.
وفي يونيو من العام 1944، خاض الجيش الأمريكي معارك ضارية ضد القوات اليابانية للسيطرة على جزيرة سايبان الاستراتيجية في المحيط الهادئ. وأسفرت المعارك عن مقتل عشرات الآلاف من الطرفين على مدار ثلاثة أسابيع. ومع اقتراب انتصار القوات الأمريكية، أمر إمبراطور اليابان جميع السكان في الجزيرة بعدم الاستسلام والانتحار عوضًا عن ذلك. وبالفعل، استجاب عدد كبير من السكان لأوامر الإمبراطور وألقوا بأنفسهم من حافة جرف إلى مياه المحيط. وسميت تلك الهاوية لاحقًا باسم “هاوية الانتحار”.
وفي سياق آخر، لا يمكن تجاهل المشاريع الانتحارية التي تبنتها بعض الطوائف والأحزاب اللبنانية والعربية خلال العقود الماضية، والتي تسببت بدمار وخراب كبيرين أصابا المجتمعات التي دعمتها.
لكن حزب الله وصل إلى مرتبة رفيعة قلّما وصل إليها غيره من الأحزاب والطوائف. وبالتالي فإن وقع الهزيمة التي مُني بها الحزب مؤخرًا عليه وعلى بيئته سيكون مضاعفًا مقارنة بالأمجاد التي حققها طيلة العقود السابقة. فقد نجح هذا الحزب في إقناع الطائفة الشيعية بأن وجودها مرهون بسلاحه. وهذه القناعة تتجاوز مسألة مقاومة إسرائيل والسرديات المرتبطة بها؛ فشعارات مثل “الصلاة في القدس” و”تحرير فلسطين” ليست سوى شعارات ديماغوجية تهدف إلى التعبئة وتخفي وراءها السعي لدور أساسي للطائفة الشيعية في التركيبة اللبنانية.
هذه الحقائق تدركها الطائفة الشيعية جيدًا؛ فالغالبية الكاسحة منها تعرف تفاصيل هذه الأهداف بوضوح. بل إن نخبها تدرك أن القضية الفلسطينية ليست سوى شماعة يعلق عليها الحزب أهدافه الأخرى التي تتراوح بين تحقيق الطموحات الإيرانية الإقليمية وبين تعزيز دوره المحلي الرئيسي في لبنان. وقد وصل حزب الله إلى مرتبة متقدمة بين الأذرع الإيرانية المنتشرة عبر الشرق الأوسط حتى أطلق عليه لقب “درة تاج تلك الأذرع”.
لذلك فإن وقع الهزيمة سيكون كبيرًا عليه وعلى مختلف المستويات. ولن تمر تداعيات هذه الهزيمة بسلام على الحزب وبيئته الحاضنة. كما أن هذه التداعيات لن تُقبل بسهولة؛ فالتيارات العسكرية والعسكريتارية الحزبية هي الأكثر عرضة لدفع الثمن، خصوصًا أن ولادة الحزب كانت عسكرية بالأساس وتجربته تبلورت حول هذا النهج.
بناءً على ذلك، فإن الخيارات المطروحة أمام الحزب تبدو انتحارية كبديل عن الخيارات الصعبة التي تتطلب مراجعة المراحل السابقة واستخلاص العبر منها. كما أن تبني أساليب جديدة تأخذ بعين الاعتبار المتغيرات الدولية والإقليمية والداخلية يبدو أمرًا بعيد المنال.
أخيرًا وليس تشاؤمًا، لم تقم الأحزاب والطوائف الأخرى التي مرت بتجارب مشابهة بمراجعات جذرية أو رأفت بمجتمعاتها الحاضنة. فلماذا سيقوم حزب الله بذلك الآن؟ وهل سيرأف بالطائفة التي منحته ثقتها وأعطته خيرة أبنائها؟ أم أنه سيكمل بما تبقى لديه حتى النهاية؟
ا