كتب جورج حايك: تشغل زيارة الموفد الفرنسي جان ايف لودريان إلى لبنان الوسط السياسي حالياً، لكن أكثر المتفائلين من هذه الزيارة لا ينتظر منها الكثير، لأن ما بعد اجتماع اللجنة الخماسية في الدوحة غير ما قبله، ولودريان لا يعمل بمعزل عن اللجنة الخماسية وبيانها الواضح الذي أنهى المبادرة الفرنسية وتخطى مسألة ترشيح سليمان فرنجية وجهاد أزعور، ونسف كل الدعوات إلى الحوار، داعياً إلى الإحتكام إلى الدستور وانتخاب رئيس جمهورية في مجلس النواب. وبالتالي يبدو ان أجواء اللجنة الخماسية متطابقة مع رؤية “القوات اللبنانية” وتتناقض مع توجهات “الحزب”، وهما القطبان الأساسيان في الملف الرئاسي، ويقودان جبهة المعارضة و”الممانعة”.
حتماً يتميّز لودريان بأسلوب ديبلوماسي خاص به، فهو يجمع ما بين الليونة والواقعية الصارمة في التعاطي مع المكوّنات السياسية اللبنانية، ولديه هامش من الحريّة في استنباط وسائل وحلول تهدف إلى حل الأزمة الرئاسية، ولو أن السقف حدده اجتماع اللجنة الخماسية في الدوحة، ولم يعد مقبولاً دولياً أقل من هذا السقف.
ولعل هذا الأمر أثار ريبة “الحزب” الذي لا يُخفى على أحد انتقاده للجنة الخماسية واعتبارها تدخّلاً خارجياً، علماً أن معيار التدخل الخارجي لدى “الحزب” مثير للسخرية، فكل التدخلات السريّة والمعلنة من إيران تعتبر مباركة، وكل ما يرشح عن دول غربية من صفقات وتسويات تصب في مصلحته، تلاقي ترحيباً ولا تعود تدخلات خارجية، أما إذا كانت هذه الدول تدعو اللبنانيين إلى احترام الدستور والقرارات الدولية، فهذا استكبار أميركي وهيمنة تستوجب المقاومة والممانعة!
على أي حال، يمر “الحزب” اليوم في مرحلة كآبة وخيبة امل بعد بيان “الخماسية” في الدوحة، إذ ترك لديه انطباعاً سيئاً وجاءت زيارة لودريان إلى لبنان لتزيد في الطين بلّة، لأنه أعلن وفاة واسدال الستارة على ترشيح سليمان فرنجية للرئاسة.
تقهقر “الحزب” بدا واضحاً من خلال توقّفه عن الدعوة إلى الحوار وفقدان الأمل من استجابة المعارضة مع دعواته “المشبوهة”، فيما صبّ بيان الدوحة لمصلحة طروحات “القوات” لجهة الإعلان عن التمسك بالمسار الدستوري لانتخاب رئيس للجمهورية في لبنان، مما ينسف نظرية الحوار المسبق للاتفاق على اسم الرئيس التي يطرحها “الحزب”. أي أن اللجنة الخماسية اعتبرت هذه الدعوة مناورة والتفافاً على الدستور ورفضت السير بها، كما كانت تنبّه “القوات” منذ بداية المعركة الرئاسية، إضافة إلى ضرورة التمسك باتفاق الطائف وعدم الدخول في حوارات الهدف منها الالتفاف عليه وتكريس أعراف تنسف جوهره ومضمونه بهدف تحقيق مكاسب سلطوية.
وتأكيداً على شعور “الحزب” بالخسارة وإدراكه أن طروحات “القوات” تتقدّم، أوعز إلى شخصيات ومؤسسات تدور في فلكه، إلى مهاجمة “القوات” وتلفيق أكاذيب وشائعات عنها، توالت منذ اسبوع حتى اليوم. ويكفي متابعة مواقف الثنائي الشيعي المتشنجة، فضلاً عن إطلالات المنظّرين له في الوسائل الإعلامية والتوتر الذي يطغى عليها، لإدراك حالة الإرباك التي يعيشها جرّاء سقوط رهاناته.
ليس المقصود بهذا الكلام أن اللجنة الخماسية متأثرة برؤية “القوات، وحتماً هذا ليس استنتاجاً منطقياً، إنما هذا ما يؤكد ان “القوات” تعمل لمصلحة لبنان ومنطق الدول ينسجم مع المنطق السياسي لـ”القوات” التي ترفض نموذج المساكنة بين الدولة والميليشيات والسلاح خارج الدولة.
من جهة أخرى، لا يزال يتحدث “حزب الله” من منطق استعلائي، معتمداً على فائض القوة التمتثّل بسلاحه، ويتحدى اللبنانيين بأن نفَسَه طويل، ملمحاً إلى ان خصومه سيستسلمون لأنهم لن يتحمّلوا ضغوطات الفراغ والانهيار، فجاء بيان اللجنة الخماسية ليركّز على التعجيل في إجراء الانتخابات الرئاسية، والإعلان عن مناقشة خيارات محدّدة في ما يتعلق باتخاذ إجراءات ضد أولئك الذين يعرقلون إحراز تقدم في هذا المجال. وهذا ما أسمعه لودريان لمعرقلي الانتخابات الرئاسية، وعصا العقوبات يبدو جدياً في مواجهة الثنائي المعطّل، وربما اعتدنا على ما يسمّى العصا والجزرة، وقد استخدمهما لودريان في لقائه مع رئيس مجلس النواب نبيه بري الذي يتحمّل المسؤولية المباشرة عن التعطيل. وما علمه موقعنا من لقاءات لودريان أنه اقترح حواراً وطنياً برعاية دولية للاتفاق على مبدأ الانتخابات وعدم التعطيل.
في المقابل، تبدو “القوات” مرتاحة إلى السياق الدولي أكثر من أي وقت مضى، وهي حققت تقدماً بإسقاط ترشيح فرنجية وإفشال الحوار-الفخ الذي دأب “الحزب” على طرحه، وأظهرت مع حلفائها أي “الكتائب” والمستقلين السياديين وبعض التغييريين تماسكاً في الموقف، ولو لم يستطع هؤلاء ايصال أي مرشّح إلى رئاسة الجمهورية.
واللافت أن “الحزب” كان يراهن على تفكك المعارضة، لكنه أصيب بخيبة بعدما لاحظ العكس، وكل ما يسعى إليه اليوم هو تشجيع لودريان على رعاية فرنسا لحوار وطني، علماً أن المعارضة غير متحمّسة بتاتاً لهذا الموضوع، كي لا يتكرّس مبدأ الحوار عند كل استحقاق على حساب الدستور واللعبة الديموقراطية. أما لودريان فانتقل في لقاءاته الأخيرة إلى التوغّل أكثر في طرح إسم ثالث لرئاسة الجمهورية يلقى استحساناً من الجميع ويكون حلاً وسطاً لكل القوى السياسية، إلى جانب ترويجه لحوار مدعوم من اللجنة الخماسية. المعارضة تتريّث لإتخاذ القرار النهائي في مسألة الحوار بهدف التنسيق، وحتماً مثل هذا الحوار لا يزعج “حزب الله” لأنه قد يأخذ الأمور إلى تمييع المسألة وكسب الوقت بانتظار تغيّرات ما، وغيرها من الأسباب.
وإذا بقيت الأمور على هذه الحال، لن يستمر المجتمع الدولي مكتوف اليدين، لأن الفريق المعطِّل للانتخابات الرئاسية معروف، ويعطّل نصاب الدورات المتتالية، ويمنع انتخاب رئيس جديد للجمهورية، ويتمثّل بالثنائي الشيعي، وسيف العقوبات قد يكون قريباً.
ولا يُفهم عناد الثنائي الشعي وخصوصاً “الحزب” أنه يستشعر انتهاء دوره الإقليمي المتضخّم في زمن تحوّل جديد، وقد تبلَّغ من الإيرانيين وجوب التأقلم مع الوضعية الجديدة المقبلة على المنطقة، وكلّما تشبّث في عناده منتظراً صفقات وتسويات تمنحه امتيازات على بقية القوى السياسية، يُضاعف خسائره، لأن عواصم القرار ولا سيما القوة الإقليمية الرئيسية المتمثلة بالسعودية تشدد، على البند المتعلق باحترام سيادة الدول وعدم التدخل في شؤونها الداخلية، وهذا ما برز في الاتفاق السعودي – الإيراني، وبتوقيع طهران، وهو يعني ما يعنيه، ولم يتم وضعه لمجرد تعبئة الفراغ في الصفحات، بل وُضع ليُطبَّق تدريجياً.
وسرّ النفَس الطويل لـ”القوات” هو إدراكها بأن “حزب الله” مُربك إزاء التحوّل الحاصل. فدوره الإقليمي إلى انحسار وسيكون مضطراً للإنكفاء إلى الداخل، حيث لا يمكن صرف وتقريش عامل القوة المضخَّم، بفعل التوازنات والحقائق اللبنانية الدقيقة. فاللعبة في لبنان محكومة بعناصر تُزان بـ”ميزان الجوهرجي”، وأي محاولة للتلاعب بمركّباتها تفجِّر البلد، وتبدو “القوات” وكل قوى المعارضة ذاهبة في التصدي لمحاولة الإطباق نهائياً على البلد إلى النهاية ولن تتراجع.
ربما تطول فترة إنجاز الانتخابات الرئاسية، لأسباب عدة، لكن أبرزها لأن “الحزب” لا يعرف كيف يتعامل مع الوضعية الجديدة المحكوم بها. فمن جهة، التحوّلات الإقليمية والتوازنات الداخلية لا تصبّ في مصلحته، ولا يمكنه بأي شكل أن يفرض رئيساً على اللبنانيين في ظل هذه المعطيات. وفي الوقت ذاته، هو لا يعرف كيف يتعامل مع هذا الواقع، ونحن حالياً ضمن هذا المربع.
استراتيجية “القوات” ترتكز على المواجهة و”الصمود” لفترة معينة لتقطيع المرحلة. علماً أن “الحزب” يأكل نفسه، ويكفي مراقبة ما يجري في البيئة اللصيقة بالحزب من فلتان أمني واجتماعي وتسيُّب غبر مسبوق، وارتفاع معدلات الجريمة والتشبيح وترويج المخدرات وغيرها، فهذه مؤشرات فاقعة للضعف في أي مجتمع لا للقوة التي لا تُقهر.
أما “القوات” فأكدت في المعركة الرئاسية أن شعارها “بدّا وفيها” كان دقيقاً، وهي لا تطبّق الشعار لتثبت أي شيء لنفسها، انما انسجاماً مع مبادئها وايمانها بلبنان الحر والسيّد والتعددي والأهم كرامة الإنسان!