أخباركم – أخبارنا/ ميشال ن. أبو نجم
مواكب التشييع الكبرى في لبنان، عادةً ما تعبِّر عن الإنتقال من مرحلة إلى مرحلة. ومن شيّعه حزب الله واللبنانيون أمس، أحبوه أم خاصموه، حملَ في شخصه رمزياتٍ كثيرة، أولها فكرة مقاومة إسرائيل بالتوازي مع من رآه الشيعة رافعةً لدورهم في النظام الذي اعتبروا أنفسهم، أو اعتبرَتهم الثنائية المارونية – السنية لصيغة 1943، خارجه. لا بل أنه كان هو بذاته، ومع رفيق دربه السيد عباس الموسوي، عنواناً للإنتقال من مرحلة الفوران الثوري الإسلامي لحزب الله، إلى مرحلة الإنخراط في لبنان سياسةً ونظاماً ومؤسسات دستورية.
وشخص السيد حسن نصرالله أيضاً، كان بذاته تعبيراً عن الدوائر المتقاطعة لهوية حزب الله. فهو شريكٌ في قيادة المحور الإيراني بما يمثّل شيعياً، وفي مرحلة ما قبل الصراع السني – الشيعي والحرب السورية، مثَّل بعداً عربياً عنوانه مقاومة إسرائيل والقدرة على مواجهتها، لا بل “الإنتصار” عليها. وهو أيضاً قائد حزبٍ يشارك في الدولة اللبنانية ويصوغ سياساتها الإستراتيجية، و”يتواضع” داخلياً انطلاقاً من تصور مصلحته في ترك إدارة الدولة لحليفه في “الثنائية” نبيه بري والتقاطع مع حلفائه، حاليين كانوا أم سابقين.
وبين “الرسالة المفتوحة لحزب الله عام 1985 التي تلاها ابراهيم أمين السيّد، والرسالة الثانية في العام 2009، وصولاً إلى تداعيات الحرب الإسرائيلية، جرت مياه كثيرة تحت الجسم الحزبي “الثقيل” بإيديولوجيته وارتباطاته والكبير بتنظيمه وشعبيته. فبين الثمانينات والتسعينات، “تكيَّف” الحزب مع البيئة اللبنانية المتنوعة التي لا تتحمل مشاريع أصولية أحادية، ودخلَ بدعم إيراني وإدارة سورية، إلى المجلس النيابي وبعد الـ2005 في الحكومات. أما رسالة ال2009 فأفصحت عن انخراط لبناني أكبر، معبّرة عن التحولات ما بعد الإنسحاب السوري، وأيضاً التفاهم الشهير آنذاك مع القوة السياسية الأكثر تمثيلاً للمسيحيين.
اليوم لم يعد هناك من “جسر” أمنه الحليف السوري منذ ترسيخ علاقته بإيران الثورة الإسلامية بعد العام 1979، لا بل أن إيران نفسها أمام هجمة أميركية لتحجيم نفوذها في المشرق والخليج. ومن هنا، حجم التحديات التي ستفرض إيقاعها على الأداء السياسي لحزب الله.
ولعلها المرة الأولى اليوم، التي سيضطر فيها حزب الله فعلاً إلى مقاربة معمقة لدوره في المجتمع اللبناني والدولة. وخطاب الشيخ نعيم قاسم، عبّر عن جزء من هذا التفكير العقلاني بإعادة التأكيد على الإنتماء اللبناني للشيعة في وطن “نهائي”، وبالإستعداد للمشاركة في الدولة. أساس هذه المقاربة الجديدة تحولات ما بعد الحرب، وتراجع الدور العسكري للمقاومة إلى درجاتٍ كبيرة، لا يُعرف حتى الساعة مداها. فما كان ممكناً بعد تحرير الجنوب عام 2000، بات صعباً جداً بعد الحرب وما تلاها من كلفة عالية نتيجة الإنخراط في “حرب الإسناد”.
وسؤال الدولة هذا، بما يتطلبه من إعادة انخراط فعلي في إعادة بنائها، هو الأساس لأيّ نقاش لبناني مع “الحزب”. فهو تجنّب دائماً هذا الأمر لصعوبة ما يتطلبه من رؤية ومن تحالفات وحتى إشكالات يفترضها، أو “يتذرع” بها، مع حليفه الرئيس نبيه بري. وذهب بعيداً في ضرب الشراكة مع المسيحيين تحديداً بتغطية العورات الدستورية لحكومة نجيب ميقاتي، من دون أن يكون هناك مشروع واضح بطبيعة الحال للإصلاح المالي والإقتصادي، المطلوب أكثر من اي وقت مضى للبنان.
إن سؤال علاقة حزب الله والدولة في المرحلة المقبلة، يتجاوز البُعد اللبناني إلى فكرة مقاومة إسرائيل نفسها. فقد ذهب الفكر العروبي وتعبيراته في الأنظمة السياسية إلى رفع شعارات عاطفية في “مواجهة إسرائيل”، وكانت النتائج بائسة لأن مشاريع واضحة لإدارة المجتمع داخلياً وبناء دول حقيقية تقوم على تداول السلطة والشفافية والمحاسبة، غابت لمصلحة التسلط بالقوة العسكرية. وبالتأكيد، لا يمكن مقارنة حزب الله بتلك الأنظمة نظراً لخصوصيته الفكرية التي سمحت له بتكوين حاضنة شعبية كبيرة في لبنان، وتأطيرها.
لكن “التوجه نحو الداخل”، وتحديداً في الإجابة على سؤال الدولة، هو التحدي الكبير أمام “حزب الله”، ب”نسخته” ما بعد أيلول ال2024.