كتبت عايدة الاحمدية: في الرابع من اب العام 2020 هز انفجار مدمر العاصمة اللبنانية بيروت، غيّر ملامح واجهتها البحرية، وأدى إلى استشهاد 218 مواطن وجرح أكثر من 6500 آخرين، وأحدث أضرارا مادية هائلة في المباني والممتلكات العامة وشرد مئات العائلات.
اليوم وبعد مرور ثلاث سنوات على وقوع الكارثة ما زال هذا الجرح ينزف ولا يزال القضاء غير قادر على تخطي الضغوطات لكشف الحقيقة على جريمة العصر التي ارتكبت بحق بيروت وأهلها. فالتحقيقات في هذه الجريمة معلقة ويتعذر الوصول الى الحقيقة بفعل تدخلات سياسية التي تعيق مسار العدالة
في الساعات الأولى التي تلت الانفجار أعلن وزير الداخلية محمد فهمي، أن التحقيقات ستجري في خمسة أيام، وسيتم تقديم المتورطين إلى العدالة. ولكنه مرت الايام الخمسة وتخطى التعداد الثلاث سنوات تخللتها محاولات كثيرة لإجهاض التحقيق وطمس الحقيقة
التعطيل انطلق مع بدية المسار القانوني فبعد ان تسلم الملف المحقق العدلي فادي صوان وجه في كانون الأول من العام 2020 اتهامات لرئيس حكومة تصريف الأعمال حسان دياب وثلاثة وزراء سابقين بـ “الإهمال والتسبب في وفاة المئات لكن سرعان ما رفضوا المثول امام قاضي التحقيق متمترسين خلف الحصانات موجهين الاتهامات للقاضي صوان بالاستنسابية
بعد مرور 6اشهر استقال القاضي فادي صوان. لأنه لم يتحمل الضغوط والتهديدات. فضلا عن ان الوزيرين السابقين علي حسن خليل، وغازي زعيتر، اللذين ادعى عليهما صوان في قضية انفجار المرفأ. قدموا شكوى شككوا فيها في حياد القاضي في ضوء تضرر منزله في الانفجار. وكان لهم ما اردوا، فقد نقلت، محكمة التمييز اللبنانية الناظرة في الدعوى ملف التحقيقات من يد صوان إلى القاضي طارق البيطار الذي سبق ورفض استلام الملف لمعرفته بالتعقيدات والعراقيل التي ستعترضه.
وبالفعل تصاعدت التدخلات السياسية والضغوط في وجه البيطار خاصة بعدما وجه اتهامات إلى مسؤولين امنيين، فعلت اصوات السياسيين أكثر وطالبوا بتنحية البيطار، وعلى رأسهم (ا ل ح ز ب) بعدما تواترت له انباء عن نية استدعاء قياديين من (ا ل ح ز ب) لاستجوابهم والكل يذكر الزيارة الشهيرة الني قام بها أحد مسؤوليه الى قصر العدل حيث قيل انه وجه تهديد بالقتل لبيطار بعدما ان رفض اطلاعه على مجريات التحقيق.
مع اصرار البيطار على متابعة تحقيقاته رغم التهديد والوعيد والتخوين عمدت المنظومة الى كف يده بدعاوى وطعون رفعها تباعاً مُدعى عليهم بينهم نواب حاليون ووزراء سابقون ضده
وبعد تعليقٍ دام 13 شهراً، اتخذ القاضي خطوات لتخطي التعثر في التحقيق. استنادًا إلى تحليل قانوني، قال إن القواعد التي تحكم عزل القضاة المنصوص عليها في المادة 357 من القانون 328 لا تنطبق على دوره، وإن محاولات عزله قد تكون انتهكت المبدأ الدستوري لفصل السلطات.
وشكل قرار القاضي بيطار بارقة امل لأهالي الضحايا الا ان المنظومة شنت عليه حملة اعلامية اتهمته بانه ينفذ تعليمات خارجية وان قراره جاء في اعقاب لقائه قاضين فرنسين زارا بيروت ، علما ان اوساط مقربة من البيطار اوضحت ان قاضي التحقيق رفص تسليم القاضيين الفرنسيين أي ورقة أو مستند من الملف إلا وفق الأصول القانونية وأبلغهما أنه شارف على الانتهاء من القرار الظني، وأنه يمتلك تصوراً متكاملاً حول من أتى بنترات الأمونيوم إلى المرفأ، ومن كان يستفيد من وجودها طيلة سبع سنوات، وأن ملفه سيشكل صدمة لناحية قوة القرائن وأسماء المتورطين
وفي اللقاء الثاني، الذي عقد في منزله واستمر ثلاث ساعات، اوضحت تلك المصادر بانه كان بناء على طلب القضاة الفرنسيين، الذين حاولوا إقناعه بالحصول على بعض الوثائق، إلا أنه كرر رفضه من جديد، وذهب بعيداً إذ طالب الفرنسيين بالتعاون وتسليم ما سجلته الأقمار الصناعية حينها لحسم الجزئية المتبقية حول الانفجار إذا ما كان نتيجة عدوان إسرائيلي أو تفجير داخلي.
بيطار الذي كان مصرا على الوقوف بوجه المعرقلين ,استأنف عمله بقرار الادعاء على ثمانية أشخاص جدد بينهم المدير العام للأمن العام عباس ابراهيم والمدير العام لأمن الدولة طوني صليبة كما ادعى على النائب العام التمييز غسان عويدات. فكان رد عويدات في 25 كانون الثاني 2023 بإصدار قرر يقضي بملاحقة القاضي البيطار بتهمة “التمرّد على القضاء” و”اغتصاب السلطة”، وكذلك قرر عويدات الإفراج عن جميع المشتبه بهم في قضية الانفجار الكارثي، مبررا خطوته، بأنه كانت لديه معلومات عن توجه البيطار إلى إخلاء سبيلهم تباعاً، وقال “اتخذت هذا القرار لمنعه من استخدام الموقوفين في سياق سياسي يناسبه”.
، ونفى عويدات، أن تكون قراراته ناتجة من ضغط من (ا ل ح ز ب) أو أي جهة خارجية، معتبراً الضغط الوحيد كان محاولة تدخل بعض النواب المعارضين في مسار القضاء عبر شحن الرأي العام. الا ان مصدر قضائي قال في حينها لوسائل اعلام محلية أن، (ا ل ح ز ب) الذي يقف خلف عويدات كان يترصد أي خطوة لدفن الملف نهائياً، وأنه بدأ منذ بداية التحقيق التحضير لإجهاضه، مذكراً بالتهديدات العلنية لأمين عام الحزب حسن نصر الله وتخوين القاضي السابق فادي صوان ومن بعده البيطار، والتخوين المستمر بتوجيه التحقيق وفقاً لأجندات خارجية.
في اعقاب اخلاء سبيل كل المتهمين وتفريغ ملف انفجار المرفأ تقدم محامو أهالي الضحايا بدعوى مخاصمة أمام الهيئة العامة لمحكمة التمييز ضد الدولة عن أعمال القضاة والخطأ الجسيم بإطلاق سراح الموقوفين في ملف انفجار المرفأ من قبل القاضي عويدات، في حين أشار “نادي قضاة لبنان” إلى أن ردة فعل القاضي عويدات غير مبرّرة وخارجة عن الضوابط والأصول بشكل صارخ بما يهدم أساسات العدالة والقانون. وعرقلة التحقيق المحلي في الانفجار عبر حماية السياسيين والمسؤولين المتورطين في الانفجار من الاستجواب، والملاحقة القضائية،
وشكل إطلاق جميع الموقفين في قضية انفجار المرفأ صدمة كبير وخيبة امل أكبر لأهالي الضحايا الذين كانوا يأملون من دولتهم العمل على كشف الجناة وتقديمهم للعدالة ومعاقبتهم
وكم كانت الصورة مؤلمة لكل اللبنانيين وليس فقط لأهالي الضحايا والمتضررين امام مشهدية فتح ابواب السجون امام كل المتهمين فيما كان يزج في السجون اقارب للضحايا المتألمين
وفي ظل ما تشهده التحقيقات من عرقلة لطمس الحقيقة، تقدّم حزب القوات اللبنانية، بالعريضة النيابية الحقوقية المشتركة وأودعها في سجل مجلس حقوق الإنسان العالمي التابع للأمم المتحدة. وهذه العريضة، وقعها ٣٥ نائباً في ٧ تموز وتدعو مجلس حقوق الإنسان إلى تشكيل لجنة تقصي حقائق دولية في جريمة مرفأ بيروت. وكان قد أعلن عنها تكتل الجمهورية القوية الى جانب أهالي الضحايا والشهداء ومنظمة هيومن رايتس واتش في مؤتمر صحفي عُقد في تموز الحالي بحضور فعاليات بيروتية ونواب ودبلوماسيين وممثلين عن منظمات إنسانية وحقوقية دولية، على أمل أن يثمر هذا العمل بعد الجهود التي يبذلها هؤلاء كلّهم في مواجهة محاولات التعطيل التي تمارسها بعض القوى السياسية في ملف التحقيقيات بشأن جريمة المرفأ.”
جوهر الموضوع ان ما يشهده مسار تحقيقات المرفأ هو ارساء للمعادلة ان هناك اطرافا خارج دائرة العقاب. وامام هذا الواقع المطلوب رفض الاستسلام والاستمرار بالضغط لعل ذلك يُضئ بقليل من الأمل طريق الرجاء لدمل الجراح التي خلّفها انفجار بيروت.