
كتب باسل عيد: لكل حصان كبوة، إلا أن الحصان الفرنسي الأصيل، الذي لطالما جمح خلال فترات طويلة من الزمن في بلدان أوروبا وآسيا وأفريقيا، يبدو أنه أصابه التعب الشديد، ووقع في كبوات لا تعد ولا تحصى.
فرنسا المستعمرة، التي كان يحسب لها الف حساب، شأنها كشأن بريطانيا العظمى في تاريخنا، تعثر حصانها مرات عدة وأصابه العرج، وبات عاجزا عن قطع المسافات بسرعة الريح، وجل ما يمتلكه اليوم نظرته الى ماضي الأمجاد بحسرة وألم.
نعم. فرنسا اليوم لم تعد أبدا كما كانت عليه في الماضيين القريب والبعيد. هي لم تعد تمتلك القرار ولا التأثير، وتعثرها لم يعد يقتصر، كما برز مؤخرا، على لبنان فقط. بل هو امتد الى مستعمراتها السابقة في افريقيا، تحديدا في النيجر، حيث سقطت هيبة وسطوة باريس هناك، بأيدي حفنة من الانقلابيين الذين اطاحوا برئيس البلاد محمد بازوم، الموالي لدولة برج إيفل، ما أثار غضب الرئيس الفرنسي ماكرون، الذي بدأ يتوعد بالرد، وسط حديث عن امكانية تدخل عسكري لبلاده في الدولة الافريقية لاطلاق سراح بازوم واعادته الى السلطة مجددا.
وفي الحديث عن لبنان، ما هي الا ايام قليلة مضت، حين تلقت فرنسا صفعة من خلال السقوط المدوي لمبادرتها الرئاسية في هذا البلد، حيث فشلت “الأم الحنون” في فرض قرارها على الإبن الضال. فرنسا التي كانت تسعى جاهدة لدعم اسم سليمان فرنجية لرئاسة الجمهورية، معتبرة ان باستطاعتها فرضه بعد التقرب من “الثنائي”، ضامنة “ولاء” مسيحيي لبنان لها وإمكانية مسايرتهم لأمنيات “الماما”. إلا أن النتيجة كانت بالفعل صادمة لها، وتبين أنه لم يعد هناك أي تأثير لباريس على لبنان، سوى ذكريات غابرة من حقبة الانتداب، متمثلة بأسماء بعض الشوارع والساحات، والتي تم تغيير الكثير منها مؤخرا.
وبسقوط المبادرة الفرنسية، ومع زيارات لودريان الشكلية الفارغة من أي مضمون أو هدف، ولأن الكثير من اللبنانيين باتوا يدركون جيدا أن مصلحة فرنسا في لبنان، تحديدا ما يتعلق بعمليات التنقيب عن النفط، بالنسبة إليها أهم بكثير من مصلحة بلد الأرز، إنكفأت باريس عن دورها بعد بيان اللجنة الخماسية التي وضعت النقاط على الحروف، وطيرت المبادرة الفرنسية الى غير رجعة، وأظهرت أن دور فرنسا في لبنان أصبح ثانويا في مقابل بلدان أخرى، كالمملكة العربية السعودية، التي باتت تمتلك جزء وازنا من القرار والتأثير السياسيين في لبنان على حساب الدور الفرنسي.
إن تراجع الدور الفرنسي الى حد كبير، ليس في لبنان فحسب بل في العالم بأسره، مرده إلى السياسة العمياء التي تتبعها باريس، والى التقديرات الخاطئة التي تسيطر على قيادتها، تحديدا الرئيس الحالي ايمانويل ماكرون، الذي يعتبره البعض محدود التفكير والنظرة الى المستقبل، في وقت تتساقط فيه أوراق قوة بلاده شيئا فشيئا أمام عينيه، وهو عاجز تماما عن تدارك الأمور. فماكرون الذي استقبل في لبنان استقبال الابطال بعد ايام من انفجار مرفأ بيروت، حين جال في شوارع وأزقة بيروت المدمرة، عجز حتى عن فرض تحقيق محلي او دولي في تلك الجريمة، ولم يتجرأ على تسمية معطلي عمل القاضي طارق البيطار، بل هو حاول ممالأتهم من خلال طرح اسم فرنجية للرئاسة، غير آبه بصرخات الثكالى وضاربا بعرض الحائط آلام من فقدوا الاحبة ومن دمرت ممتلكاتهم الذين سمع أنينهم خلال جولته تلك.
لبنان طار من يد فرنسا، واليوم النيجر كما غيرها من بلدان افريقيا التي لم تعد باريس تمون عليها. كل ذلك بسبب السياسة الرعناء لمن يتولون السلطة في فرنسا، وتجردهم من الواقعية في مقاربتهم للأمور، في مقابل المزيد من التقهقر في دور بلدهم على الصعيدين الاوروبي والعالمي.