أخباركم – أخبارنا/ عايدة الأحمدية
منذ انهيار نظام بشار الأسد وسيطرة هيئة تحرير الشام وحلفائها في سوريا، برزت تساؤلات حول طبيعة العلاقة بين الأقليات والسلطة الجديدة. وساهمت عوامل عدة، أبرزها غياب الثقة وتعقيدات المشهد السياسي والاقتصادي، في تعميق الأزمات والانقسامات.
في قلب الأزمات السورية المتشعبة، تبرز محافظة السويداء كواحدة من أكثر الساحات تعقيدًا، حيث تتصادم تحديات الهوية والمصير مع مخاطر التفتيت الخارجي والانهيار الداخلي. وتجسّد هذه المنطقة، ذات الأغلبية الدرزية، معضلة وجودية في ظل نظام سوري منهك، وحروب بالوكالة، وتداخلات إقليمية تهدد بنسف استقرارها. فبين مطرقة التطرف الإسلامي وسندان المخططات التقسيمية التي تستغل انهيار الثقة بين الأقليات والسلطة، يواجه الدروز في السويداء اختبارًا مصيريًا: كيف يحافظون على أمنهم وهويتهم دون التفريط بانتمائهم الوطني؟
تاريخيًا، شكل الدروز حصنًا ضد الاحتلالات، لكنهم اليوم يواجهون تحديات غير مسبوقة. فبين إغراءات “الدولة الدرزية” التي تروج لها أطراف إسرائيلية، ومخاوف تكرار مذابح مشابهة لما حدث للعلويين، تطفو تساؤلات حول إمكانية التحالف مع قوى خارجية كخيار للبقاء، أو التمسك بوحدة سوريا رغم جراح الماضي.
وفقًا للمعطيات، تقول أوساط دروز السويداء إنهم متمسكون بسلاحهم، وإن المساعي لتجريدهم منه لن تصل إلى نتيجة في المدى المنظور، خاصةً بعد أن شهد العالم الفظائع التي ارتكبها المتطرفون الإسلاميون ضد العلويين في المناطق الساحلية السورية. كما ترى هذه الأوساط أن تحركات الزعيم وليد جنبلاط في هذا السياق “هدر للوقت”، إذ يصرّ الدروز على التمسك بالسلاح لمنع تكرار الجرائم ضدهم، كما حدث سابقًا في ريف إدلب، أو وقوع إبادة لأهالي السويداء مماثلة لما يتعرض له العلويون.
وفي هذا السياق، ترى بعض الأوساط أن الأقليات في سوريا قد تجد نفسها مضطرة للتحالف مع إسرائيل لمواجهة التطرف الإسلامي والحفاظ على وجودها في المنطقة، معتبرةً ذلك “خيارًا اضطراريًا” في ظل الممارسات الإجرامية التي شهدتها البلاد.
ويتحدث عدد من المتابعين في محافظة السويداء عن مغريات كبيرة تُقدَّم لبعض الأشخاص، حيث تُعرض عليهم مبالغ مالية ضخمة. ومع ذلك، تبقى المناعة القومية والوطنية لدى الغالبية العظمى من الدروز حاجزًا أمام هذه المحاولات، إذ يفضّلون التمسك بوحدة سوريا وبإرثهم النضالي.
وفي هذا الإطار، يحذر الكاتب الفلسطيني الدرزي سعيد نفاع من مخطط إسرائيلي لإقامة دولة درزية منفصلة، مستعرضًا التاريخ السياسي للدروز في المنطقة. ويشير إلى أن الانتداب الفرنسي أقام دولة درزية في سوريا بين عامي 1921 و1936، كما حاولت الصهيونية استغلال الدروز كـ”رأس حربة” في مشاريعها. ويشدد على التاريخ النضالي للدروز في مقاومة الاحتلال الإسرائيلي ودورهم في الثورات الفلسطينية، ويؤكد رفضهم لمثل هذه المخططات. لكن نفاع يحذر من بعض “القيادات الدرزية” التي وصفها بأنها “طابور خامس” تعمل لصالح إسرائيل، مؤكدًا على الإرث العروبي الثوري للدروز، ومعربًا عن أمله في إفشال هذا المشروع الإسرائيلي.
وفي ظل هذا المشهد، ثمة دعوات إلى اتحاد الأقليات، وتحديدًا الدروز والعلويين والشيعة، إلى جانب الأكراد والسنة المعتدلين، بهدف التصدي للمد الإسلامي المتشدد القادم إلى سوريا من دول متعددة. وتحذر تلك الجهات من أن الدول العربية ستكون أول من يدفع ثمن تجاهلها للأحداث في سوريا، متوقعةً امتداد التطرف إلى أراضيها، من سوريا إلى الأردن، ومن العراق إلى دول الخليج، ومن سيناء إلى مختلف المناطق المصرية. كذلك، تتوقع أن تكون الدول الأوروبية ضحية لتمدد المتطرفين الإسلاميين.
وسط هذه التحديات والمخاطر التي تهدد السويداء ومكونها الدرزي، تبقى وحدة الصف والتمسك بالهوية الوطنية العروبية السلاح الأهم لمواجهة محاولات التقسيم والتوظيف السياسي. ورغم كل الضغوط والمغريات، فإن التاريخ يشهد بأن دروز المنطقة لم يكونوا يومًا إلا في صفوف النضال من أجل قضاياهم العادلة، سواء داخل سوريا أو في فلسطين.
ولكن الأهم هو دور السلطات السورية، إذ عليها أن تدرك أهمية بناء جسور الثقة مع الأقليات، خاصةً بعد تراجع ثقة هذه المكونات نتيجة السياسات السابقة والتهديدات الأمنية التي واجهتها. يجب أن تتبنى الدولة نهجًا قائمًا على المصالحة الوطنية، وضمان حماية جميع مكوناتها دون تمييز، وتعزيز سيادة القانون لمنع أي محاولات لفرض أجندات خارجية أو خلق نزاعات داخلية.
كما أن إعادة بناء المؤسسات الأمنية والعسكرية على أسس وطنية تشمل جميع الأطياف، وتقديم ضمانات حقيقية للأقليات بالحفاظ على حقوقهم وهويتهم، سيكون عاملًا حاسمًا في استعادة الثقة. فبدون ذلك، ستبقى مخاوف التفكك والانقسامات قائمة، مما قد يدفع بعض الأطراف إلى البحث عن تحالفات بديلة تهدد وحدة سوريا ومستقبلها.
لا تقتصر المعضلة على الجغرافيا السياسية فحسب، بل تمتد إلى البنية الاجتماعية الهشة، حيث تهدد الانقسامات الداخلية بتمزيق النسيج المجتمعي. هنا، تصبح إعادة بناء الثقة بين السلطة السورية والأقليات عاملًا حاسمًا، ليس فقط لإنقاذ السويداء من مصير مجهول، بل أيضًا لإنقاذ سوريا من سيناريو التفكك الكامل. فهل تستطيع دمشق تحويل التاريخ النضالي للدروز إلى جسر للمصالحة، أم ستدفع المنطقة ثمنًا باهظًا لغياب الرؤية والضمير؟