كتب ابراهيم بيرم لـ “أخباركم – أخبارنا”
أثارت جولة العنف الحدودية المتفجرة بين لبنان وسوريا، السؤال مجدداً عما إذا كانت خلفية هذا التطور الامني المفتوح على الاحتمالات الساخنة، هي نزاعات على ترسيم الحدود بين بلدين كانا طوال قرون خلت خاضعين لحكم واحد، وانجز الاستعمار الغربي فصلهما قبل عقود الى كيانين مستقلين، اتسمت علاقتهما دوماً بالسلبية والتوتر؟ ام أن الامر تعدى الان ذلك بعد سقوط حكم بشار الاسد في دمشق، وامساك “هيئة تحرير الشام” مقادير السلطة في عاصمة الامويين؟
ليس مفاجئاً الاستنتاج بأن طرفي الصراع المتفجر منذ اكثر من 48 ساعة على الحدود الشرقية للبنان حالياً، استندا الى خلافات حدودية مزمنة تعود الى يوم انفصالهما كيانين، ليفتحا ابواب المواجهات التي تطورت في الساعات الماضية لتستحيل حرباً بكل معنى الكلمة، لا سيما بعدما انخرط فيها الجيش اللبناني مباشرة، في مقابل دخول الجيش السوري ومجموعات من “هيئة الامن العام”، الفصيل الذي استحدثه الحكام الجدد في دمشق ليكون عصاهم الغليظة في وجه ما يسمون “فلول النظام الساقط”.
يقول اللواء الركن المتقاعد الدكتور عبد الرحمن شحيتلي، واضع كتاب “الحدود اللبنانية البرية والبحرية – دراسة تاريخية وجغرافية وسياسية (صدر عام 2024)، إن انفجار الخلافات الحدودية خلال الايام القليلة الماضية، وللمرة الثانية منذ اقل من شهرين بين لبنان وسوريا، كان امراً متوقعاً لاعتبارات ووقائع عدة، من بينها ان ثمة خلافات حدودية تاريخية لم تحلّ على الرغم من محاولات مضنية بذلت من اجل ذلك، اضافة الى سبب تاريخي، وهو ان كل العهود السورية المتعاقبة منذ الاستقلال حتى الآونة الاخيرة ظلت تنطلق من “عقدة تاريخية كامنة”، مفادها أن ثمة ارضاً في لبنان سلخت من سوريا سلخاً بموجب اتفاقات سايكس بيكو.
أضاف: من باب التذكير ليس إلا، فان أول اعتراف سوري صريح بالحدود اللبنانية، كان في “اتفاق الاسكندري” الذي وقعه ممثلو 5 دول عربية كانت يومها قد نالت استقلالها، وكان ذلك في تشرين الاول عام 1944، أي أن هذا الامر تم بعد سنة من استقلال البلدين.
وأشار الى انه على الرغم من ذلك، فان عملية الترسيم الحدودي النهائي بين البلدين لم تبدأ إلا في مطالع عقد الستينات من القرن الماضي، وقد استمرت اجتماعات اللجان والوفود المكلفة من كلا البلدين حتى مطالع عقد السبعينات. وكان يوم 22 تشرين الاول عام 1970، تاريخ توقيع اتفاق الترسيم النهائي بين حكومتي البلدين. وقد وقع يومها عن الجانب اللبناني وزير الخارجية خليل أبو حمد، وعن الجانب السوري وزير الخارجية حينها عبد الحليم خدام. وقد تضمن الاتفاق انشاء هيئة دائمة مشتركة مهمتها الاشراف العملاني على تنفيذ الاتفاق، يرأسها عن الجانب اللبناني الامين العام للخارجية وعن الجانب السوري مساعد وزير الخارجية. وحدد الاتفاق مهمة اللجنة بـ”متابعة القضايا التي تهم البلدين والنظر بالاعتراضات والشكاوى التي يقدمها اصحابها، وايجاد الحلول لها خصوصاً في المسائل الاقتصادية والامنية ذات الصلة”. وفعلاً، عقدت هذه اللجنة اجتماعات عدة، ووضعت أسساً لحل مشاكل معينة، لكنها اقرت بوجود 27 خلافاً على طول الحدود اللبنانية – السورية تبدأ من اكروم واكوم في اقاصي الشمال، مروراً بالهرمل وشربين وبلوزا والقاع وجوسة العمار، والقاع وبعيون وقارة، وصولاً الى راس بعلبك وعرسال وجوارها وفليطا، مروراً بحام وسرغايا والطفيل وعسال الورد وانتهاء بمزارع شبعا.
اضاف اللواء شحيتلي: من المحطات الايجابية الواعدة في مسار الترسيم والتنفيذ، انه في مطالع السبعينات اتفق ممثلو البلدين على وضع تقرير نهائي حول هذه القضية الخلافية، وقد رفع الى حكومتي البلدين اللذين وقعاه، ثم سارعا إلى تأليف “هيئة دائمة “لبنانية – سورية” يناط بها إيجاد أسس لحل الخلافات.
ورداً على سؤال، أشار شحيتلي الى هذا الاتفاق اوكل الى القضاة العقاريين مهمة حلّ اي خلاف حدودي لاحقاً. وفي سياق السعي لإيجاد الحلول، اتفقت حكومتا البلدين عام 1969 على تشكيل لجنة تنفيذية مهمتها ترسيم دائم للحدود وتصفية القضايا الخلافية تمهيداً لإنهائها.
ومن المفيد التذكير هنا، بأن الحكومة اللبنانية يومذاك صرفت مليوني ليرة لشركة خاصة اوكلت اليها مهمة وضع الخرائط الحدودية النهائية، مما يؤكد أن السلطات اللبنانية كانت دوماً جادة في ايجاد الحلول لهذه الخلافات، لكن الرياح كانت تهبّ عكس ما تشتهيه السفن.
وفي السياق إياه، يذكّر اللواء شحيتلي بالاجتماع الذي عقد في شتورا عام 2009 بين وفد لبنان برئاسة محافظ البقاع يومها والوفد السوري برئاسة محافظ حمص، وقد اتفق بنتيجته على تسمية 4 معابرغير رسمية بين البلدين (لجهة الحدود الشرقية) يسمح للتلامذة والمعلمين والمزارعين بعبورها يومياً وفق لوائح إسمية تضعها سلطات البلدين سلفاً، وذلك لضمان تسهيل امور القاطنين على طرفي الحدود في قرى وتجمعات بشرية متداخلة.
وقال اللواء شحيتلي رداً على سؤال عن “قضية” الخلاف حول هوية بلدة حوش السيد علي التي برزت خلال الساعات الماضية كإحدى نقاط الصراع، خصوصاً وان القوات السورية اعلنت انها تريد “استرجاعها وتحريرها”؟ أجاب شحيتلي: طوال عقود خلت لم يكن هناك بلدة عامرة بهذا الاسم، بل كان هناك معبر حدودي بين البلدين يسمى حوش السيد علي. لكن البناء توسع هناك في الاعوام الاخيرة وامتد من النطاق العقاري اللبناني الى النطاق العقاري السوري، وهذه الحال تنطبق ايضاً على اكثر من 12 بلدة متداخلة، وهذا مظهر من مظاهر تعقيد الوضع الذي أميل الى القول إنه يحتاج الى آلية حل جديدة تلجأ اليها سلطات البلدين، بعد أن تصفى النيات وتبرز الرغبة الأكيدة في ارساء أسس الحل وليس تعقيد الامور وتضخيمها لغايات معروفة.
وخلص شحيتلي الى القول: ما نذهب اليه كاستنتاج يبين بوضوح أن ثمة خلافات عميقة وتاريخية بين البلدين الشقيقين المتجاورين حول حدودهما المشتركة والتي تبلغ نحو 1190 كيلومتراً، وتظهر ايضاً ان سلطات البلدين في كل العهود قد عجزت عن وضع حلول لهذا الخلاف الذي بات يظهر غبّ الطلب أو وفق حاجة الحكام في البلدين، لا سيما وان النزاع كان دوماً سيد الموقف، لذا وضعت في مناسبات ومحطات شتى أسس وآليات وصيغ متنوعة للحل، لكن النيات غير الصافية حالت دون انهائه. فبقيت النار تحت الرماد، واستمرت الامور مرهونة بعقليات الحاكمين وتبدل العهود في كل من بيروت ودمشق.