أخباركم – أخبارنا/ مسعود محمد
إن ما يجري في تركيا اليوم من تحولات سياسية وديمقراطية يشير إلى الاتجاهات المقلقة التي قد تعصف بمستقبل النظام الديمقراطي فيها، وكذلك تأثيراتها على المنطقة، وخصوصاً سوريا ومصير الأكراد. في هذا المقال، سأتناول التطورات الأخيرة في تركيا تحت حكم الرئيس رجب طيب أردوغان، وكيف أن الإسلام السياسي يستخدم الديمقراطية كأداة للوصول إلى السلطة ومن ثم يلغيها، مما يعكس تهديداً خطيراً على مستقبل الحرية والحقوق في المنطقة.
الديمقراطية التركية في مهب الريح
بدأت تركيا، منذ تولي حزب العدالة والتنمية بقيادة أردوغان، في تجنب الكثير من المبادئ الديمقراطية التي كانت تحدد سياستها. على الرغم من أن حزب العدالة والتنمية صعد إلى السلطة من خلال الانتخابات الديمقراطية، فإن سياساته لم تلبث أن أظهرت تراجعاً مستمراً عن المبادئ الديمقراطية الأساسية، بما في ذلك حرية الصحافة والفصل بين السلطات، وتعزيز سلطة الفرد الواحد.
مؤخراً، أصبحت تركيا تتجه نحو روسيا ثانية في سياستها الخارجية، بعد أن فشل الحزب الحاكم في تحقيق التوازن بين الشرق والغرب. هذا التوجه ليس مجرد تحول في السياسة الخارجية، بل يشير إلى انقلاب حقيقي في بنية السلطة السياسية داخل تركيا. بعد سحب شهادة أكرم إمام أوغلو، وهو عمدة إسطنبول وأحد الوجوه المعارضة الرئيسية، تبين أن السلطة التركية أصبحت لا تقبل حتى بمنافسيها الديمقراطيين في الساحة السياسية. لقد شهدنا في الآونة الأخيرة سحب شهادات وأهليّة كبار السياسيين لكونهم يعارضون أردوغان، في خطوة تهدف إلى القضاء على أي تحدٍّ سياسي قد يهدد بقاءه في السلطة.
الإسلام السياسي والديمقراطية: علاقة متناقضة
تعد الديمقراطية والإسلام السياسي مفهومان لا يتوافقان بالضرورة. ففي حين أن الديمقراطية تقوم على احترام حقوق الإنسان والحريات الفردية، فإن الإسلام السياسي يرى أن السلطة يجب أن تكون مرتبطة بالقيم الدينية والتقاليد الإسلامية، مما يتعارض مع فكرة الديمقراطية التي تعتمد على الحريات السياسية والمساواة بين المواطنين بغض النظر عن دينهم أو معتقداتهم.
الإسلام السياسي يستخدم الديمقراطية كوسيلة للوصول إلى السلطة، لكنه بمجرد الوصول إليها، يتحول إلى دكتاتورية دينية تغلق الباب أمام التعددية السياسية وتحتكر السلطة لصالح جماعات دينية معينة. في حالة تركيا، يمكننا أن نرى كيف أن أردوغان وحزبه قد استخدموا الديمقراطية للوصول إلى السلطة، ثم عملوا على تحجيم دور المعارضة وحرية الصحافة وحريات الشعب. هذا المسار يتجسد بشكل واضح في تعزيز سلطته الشخصية وتعيين المقربين منه في المناصب الحساسة داخل الدولة. فلم ننسى كيف شغل رجب طيب أردوغان وسائل الإعلام المحلية والعالمية بتوقيع القرار القاضي بتحويل متحف “أيا صوفيا” الشهير إلى مسجد. وعجز أردوغان عن حل أي من المسائل الداخلية التركية المعقدة، مثل المسألة الكردية ومسألة العلويين والأقليات، تجلّت التحديات التي واجهتها تركيا بشكل بارز من خلال التورط المتزايد في الأزمات الإقليمية، وخاصة في سوريا، والاصطفاف في النزاع مع قبرص واليونان وبلغاريا. إضافة إلى ذلك، تحوّلت تركيا إلى طرف فاعل في الصراع العربي/العربي، حيث انخرطت بشكل أساسي في دعم محور الإسلاميين الذين يسعون للسلطة، متخليًا عن دورها كمسهّل للحلول، ما أدى إلى تعقيد المشهد الإقليمي والدولي. هذا التحوّل في الدور التركي عزّز تزايد التوترات مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، بينما استمرت تركيا في علاقاتها الميكافييلية مع المحور الصيني-الروسي-الإيراني. رغم بعض التوافقات في بعض الملفات، فإن هذه العلاقات لا ترقى إلى تحالف استراتيجي حقيقي، بل تبقى مليئة بالتباين في المواقف، مثلما يظهر جلياً في الملفين الليبي والسوري.
أدت هذه التحولات الداخلية والخارجية إلى فقدان حزب العدالة والتنمية أبرز مقوماته الاقتصادية، حيث بدأ التراجع الاقتصادي منذ عام 2018، وتجلّى ذلك بشكل واضح في نتائج الانتخابات المحلية، لا سيما في إسطنبول، التي شهدت إعادة الانتخابات وفوز مرشح حزب الشعب، أكرم إمام أوغلو، رغم الدعم الكبير الذي قدّمه أردوغان وحزبه. هذا التراجع في الشعبية مثّل نقطة فارقة في اللحظة التي كان أردوغان في أمسّ الحاجة إلى تعزيز شرعيته الداخلية، خاصة مع اقتراب الذكرى المئوية لتأسيس الجمهورية التركية، وهي اللحظة التي كان يطمح خلالها لإعادة تركيا إلى هويتها العثمانية الكاملة وتحويلها إلى لاعب رئيسي في الساحة الدولية. واليوم بسجن أوغلو اثبت لما مرة جديدة اردوغان ان الاسلام السياسي لا يستطيع ان يتعايش مع المختلف سياسياً وبالتالي قبول الديمقراطية.
أردوغان والجولاني: العواقب على سوريا والأكراد
إن تأثير هذا النوع من السياسات لا يقتصر على تركيا فقط، بل يمتد إلى سوريا وكل منطقة الشرق الأوسط، بما في ذلك قضية الأكراد. من خلال التركيز على حزب العدالة والتنمية في تركيا، نجد أن تأثير الإسلام السياسي على المناطق المجاورة مثل سوريا أصبح واضحاً. ففي سوريا، ظهر الجولاني، قائد هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقاً)، كواحد من أكبر المنافسين للسلطة السورية في المناطق الشمالية. ورغم اختلاف السياق بين الجولاني وأردوغان، فإن الهدف المشترك هو تقويض الديمقراطية وفرض حكم الفرد المطلق على حساب حرية الشعب.
الجولاني، كأردوغان، لا يبدو أقل تسلطاً في فرض رؤيته على السكان المحليين من خلال فرض الشريعة الإسلامية وفرض سيطرة جماعته على المناطق التي يسيطر عليها. هذا يضع الديمقراطية وحقوق الإنسان في سوريا تحت تهديد كبير، خصوصاً بالنسبة للأكراد، الذين كانوا يسعون إلى إقامة منطقة حكم ذاتي ضمن سوريا.
إن سياسة الجولاني، مثل سياسة أردوغان، تتضمن إلغاء أي نوع من المعارضة وتهميش الأقليات. ويفرض بذلك نوعاً من الحكم المتطرف الذي يتعارض مع المبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان. فكلما طال أمد سيطرة هذه الجماعات على مناطقها، كانت النتيجة هي سحق أي محاولات لتحقيق التعددية السياسية وحقوق الأقليات، وهو ما قد يؤدي إلى عواقب وخيمة على حقوق الأكراد في سوريا وعلى مستقبلهم.
خطة أردوغان: تجهيز ابنه بلال لخلافته
لقد تجاوز أردوغان الديمقراطية إلى درجة تحضير ابنه بلال لاستلام السلطة من بعده. هذه الخطوة تعكس التحول الكامل في السياسة التركية من ديمقراطية محدودة إلى حكم استبدادي يستند إلى فكرة “الحكم العائلي”. في الوقت الذي كانت فيه تركيا تصنع تاريخاً في التعددية السياسية، نجدها الآن تقترب أكثر فأكثر من نموذج النظام الروسي الاستبدادي، حيث تنتقل السلطة بين أفراد العائلة.
هذه السياسة تسلط الضوء على غياب الشفافية والمحاسبة في السلطة، وغياب أي مساحة للمعارضة أو التجديد السياسي في المستقبل. وفيما يتعلق بسوريا، قد يكون هناك تأثير مماثل على صعيد المحاولات لإعادة هيكلة السلطة عبر توريثها للأبناء، وهو ما قد يؤثر سلباً على أي إمكانية للديمقراطية أو التعددية في المستقبل.
إن ما نراه في تركيا اليوم يمثل تهديداً كبيراً للديمقراطية ليس فقط داخل حدودها، بل في المنطقة بأسرها. فالتركيز على استخدام الديمقراطية للوصول إلى السلطة، ومن ثم الانقلاب عليها لتأسيس حكم استبدادي، هو نموذج خطر يجب الحذر منه في جميع أنحاء الشرق الأوسط. كما أن هذه السياسات تتناغم مع مساعي العديد من الأطراف الإقليمية الأخرى، مثل الجولاني، الذين يسعون إلى تقويض الديمقراطية وفرض حكم فردي قائم على الأفكار الدينية. في النهاية، إن التحديات التي تفرضها هذه السياسات على الأكراد في سوريا وعلى المنطقة عموماً تجعلنا نتساءل عن المستقبل المظلم الذي قد يواجهه المواطنون في ظل غياب الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان.