أخباركم – أخبارنا/ إيلي الحاج
قرأت بفرح كتاب كريم أنطون سعَيد “الانتقال من النظام المقاطعجي إلى الحرب الطائفية- جبل لبنان في أواسط القرن التاسع عشر”.
هذا رجل يعرف لبنان جيداً بتركيبته العميقة وزواياه. بعينَي صقرٍ ينقض على تفاصيل مخبوءة عن العامة، ثم يرى إلى المشهد بأكمله ويستنتج خلاصات قيّمة عن العلاقات المتشابكة، ليس التاريخية فحسب بين الموحّدين الدروز والمسيحيين الموارنة في الجبل، بل أيضاً عن النظرات المتبادلة بين الموارنة والطوائف المُسلمة الأخرى، لا سيّما السُنّة، حيث يُبرز الكاتب في بحثه نظرية “الانتقام البديل” تفسيراً لظاهرة ميشال عون في شكل خاص.
يسجّل كريم سعَيد أن لا الموارنة تعلّموا من أخطاء الموحّدين الدروز ولا العكس، وأن الجانبَين عاشا ويعيشان حال إنكار للواقع. وفي إشارات إلى أحداث متشابهة بفارق زمني واسع يقارن بين سجن سعيد جنبلاط وسجن سمير جعجع، ويمرّ ب”لقاء قرنة شهوان” الذي لم يُخطئ بالدعوة إلى خروج الجيش السوري منسجماً مع عقيدته السيادية، ولا في دعوته إلى إطلاق زعيم ماروني وعودة زعيمين آخرَين من المنفى، بل في اعتقاد هذا “اللقاء”- الذي أدى فيه شقيقه فارس سعَيد دوراً رئيسياً إلى جانب سمير فرنجية- أن شعبيته الطارئة والقصيرة الأجل، في الشارع المسيحي، كانت بمثابة إقرار بقيادة دائمة، في حين نظر الشارع المسيحي إلى “قرنة شهوان” كجسرٍ وليس كهدف في حد ذاته. فما أن عاد أمراء الحرب المسيحيون من المنفى أو أُطلق سراحهم، انعطف المزاج العمومي عائداً إلى الحنين لما قبل اتفاق الطائف، تماماً مثلما حدث حينما عاد المقاطعجية الدروز إلى الجبل في 1840.
تلفت مقارنته أيضاً بين الخطب النارية ضد المقاطعجية الموارنة باسم المسيحيين من غير توكيل أو تفويض منهم، لميشال عون في 2005 وطانيوس شاهين في 1860. وفي متن البحث يثبت بأمثلة تاريخية تلاعب الدول بالجميع وفق مصالحها. ويذكّر بأن الأمارة دامت 325 سنة وكان على رأسها أمراء دروز وسُنّة وموارنة حكموا مجتمعاً متعدداً في نظام سياسي قائم على الحزبيّة وعلى الفوارق بين الطبقات الاجتماعية، ولم تؤدّ الانتماءات الدينية أي دور تقريباً في اختيار الحاكم أو في ولاء أنصاره قبل العام 1841، تاريخ نهاية طموح محمد علي في المنطقة وانكفائه إلى مصر، وتوجه حليفه بشير الشهابي إلى المنفى، وانفتاح شهية الدول على الامبراطورية العثمانية الموضوعة آنذاك على المشرحة، وشهية الطوائف على الأحقاد.
يختم كريم سعَيد بحثه التاريخي القيّم بالدعوة إلى استخلاص دروس تسامح من ذلك الفصل القاتم من التاريخ وأن نبرز أهمية الحوار الداخلي في حل الخلافات، مع الإقرار بفظائع الماضي ومسبّباتها التي تغذّيها غالباً طموحات سياسية مغالية وفوارق اقتصادية شديدة ومنافسات دائمة بين الإمبراطوريات. ويتلو فعل إيمان بإمكان السعي إلى بناء مجتمعات اندماجية تُصان فيها كرامة كلّ فردٍ وحريته، مركزاً عل أهمية تعزيز التعليم وروحية التعايش السلمي واعتماد آليات حلّ النزاعات، بتفضيل المصالحة على الانتقام والعيش الكريم على الحرب بين الأهل. بذلك، يرى كريم سعَيد، نكرّم ذكرى الضحايا ونعمل نحو مستقبلٍ لا يمكن أن تتكرر فيه فظائع الماضي.
- الكتاب بالإنكليزية، تولّى تعريبه بيار عقل، تقرأه باللغة التي تشاء، ويحتوي لائحة مراجع معظمها أجنبية، وصوراً لمراكز قرار في القرن التاسع عشر وشخصيات أدت أدواراً أساسية خلاله. صدر آخر السنة الماضية عن “هاشيت أنطوان”. متعة لهواة التاريخ والسياسة، وما بينهما من أفكار.