الثلاثاء, ديسمبر 10, 2024
13.9 C
Lebanon

في ذكرى مصالحة الجبل التاريخية في 3 آب نتذكّر…

نشرت في

كتب جورج حايك: في خضم الأحداث التي يمرّ بها لبنان، مرّ يوم 3 آب من دون أن ينتبه كثر من اللبنانيين إلى أهميته، حيث شهد عام 2001 محطة تاريخية تمثّلت بمصالحة الجبل التي كان محورها البطريرك الراحل مار نصرالله بطرس صفير والزعيم الدرزي وليد جنبلاط. لا شك في أن هذا اليوم أسس لتحوّلات كبرى في ظلّ الاحتلال السوري، وممارسات النظام الأمني اللبناني السوري، وأعاد اللحمة بين المسيحيين والدروز.

 أكثر من مواجهة حصلت بين الدروز والموارنة من عام 1840 إلى عام 1860 في ظل حكم السلطنة العثمانية، ثم في حرب الجبل في عام 1983 حين هُجّر المسيحيون منه، كان المطلوب وضع حد لكل تلك المآسي، وفتح صفحة جديدة وحان الوقت في 3 آب 2001.

في ذلك اليوم، على الرغم من تخطيه 81 عاماً، بدا البطريرك صفير وكأنه يتمتع بحيوية الشباب. كان يعرف أن أمامه برنامجاً حافلاً يمتد على مدى يومين، ولكنه كان اتخذ قراره ومضى. الموعد الأهم في هذه الجولة كان في قصر المختارة، حيث كان الجميع ينتظرون التقاط تلك الصورة التذكارية عندما سيتصافح جنبلاط وصفير. صحيح أن البطريرك توقف في المحطة الأولى من جولته في دارة الأمير طلال أرسلان، القطب الثاني في الطائفة الدرزية، في خلدة، ولكن الحدث كان في المختارة في القصر التاريخي لآل جنبلاط.

ما يجب معرفته أن المصالحة في ذلك الوقت لم تأت من الفراغ، كان البطريرك صفير قد مهّد للتحول الكبير في لبنان منذ أطلق في 20 ايلول 2000 نداء المطارنة الموارنة الذي أعلن فيه أنه آن الأوان لانسحاب الجيش السوري من لبنان بعدما كان حصل انسحاب الجيش الإسرائيلي منه في 25 أيار من ذلك العام. كان صفير قد أسهم إسهاماً فعالاً في التوصل إلى “اتفاق الطائف”، في تشرين الأول 1989، الذي صار دستور الجمهورية اللبنانية، وكان نصّ على بدء انسحاب القوات السورية من لبنان بعد عامين. وعندما لم يحصل ذلك الانسحاب بحجة عدم انسحاب الجيش الإسرائيلي وتقوية “حزب الله”، اعتصم البطريرك صفير بقوة الإرادة، وشعر أنه قد يكون خُدع، لكنه بقي ينتظر اللحظة المناسبة لذلك.

عندما جاهر بالمطالبة بانسحاب الجيش السوري، وجد كلامه الصدى المناسب عند وليد جنبلاط، اذ كان لبنان حينها واقعاً تحت الوصاية السورية الكاملة. حاولت دمشق أن تحاصر البطريرك صفير وتمنع التجاوب مع ندائه، ولكن جنبلاط شذ عن هذا القرار السوري ووقف في مجلس النواب يؤيد مطلب البطريرك صفير فتعرض إلى حملة شتائم وتهديدات بالقتل، ولكنه لم يتراجع.

على أساس ذلك النداء، تكوكبت حول البطريرك صفير نواة تجمع سياسي كبير تحت اسم “لقاء قرنة شهوان” بعدما وافق البطريرك صفير على أن تكون اللقاءات في مقر المطرانية وبرئاسة المطران يوسف بشارة.

هذا المسار وجد تتمته في زيارة البطريرك صفير إلى الجبل لإتمام المصالحة التاريخية مع وليد جنبلاط وبين المسيحيين والدروز. تولت ستريدا جعجع عملية التحضير الشعبي لاستقبال البطريرك في القرى والبلدات المسيحية ومواكبته في جولته التي كانت تمتد على مدى يومين. لذلك وُضعت خطة مفصلة للتجمعات الشعبية ومراكزها وانطلاقها لتأمين الحشد اللازم لكي تأتي المصالحة بحجم الحدث. نظرت السلطة السورية والسلطة التابعة لها في لبنان بريبة إلى هذا الحدث الذي يأتي ليكلل نتائج انتخابات عام 2000، واعتبرت أن التحالف بين جنبلاط ورفيق الحريري في تلك الانتخابات يصبح خطراً عليها مع انضمام البطريرك صفير إليه ومعه “لقاء قرنة شهوان” الذي تتمثل فيه قوى المعارضة المسيحية، وأبرزها “القوات اللبنانية”، ولكن هذه السلطة لم تكن قادرة على منعه.

كانت أبرز محطتين في جولة البطريرك في دير القمر في القداس الذي حضره رئيس الجمهورية إميل لحود الذي واجهته هتافات معارضة عند وصوله إلى الكنيسة، أما المحطة الثانية فكانت في قصر آل جنبلاط في المختارة، حيث كان لقاء البطريرك مع وليد جنبلاط إيذاناً ببدء مرحلة جديدة في لبنان. في آخر محطة من جولة البطريرك في طريق عودته إلى بكركي في بلدة الكحالة في قضاء عاليه، أطلقت الحشود الشعبية التي كانت تستقبله هتافات ضد النظام السوري وضد لحود. لم تسكت السلطة اللبنانية على هذا الحدث، واعتبرت أنه انقلاب يتم تنفيذه على مراحل بين وليد جنبلاط ورفيق الحريري والبطريرك صفير و”القوات اللبنانية”، فاختارت أن ترد في 7 آب، منفّذة عملية اعتقالات واسعة شملت قياديين من “القوات اللبنانية” و”التيار الوطني الحر” المؤيد للعماد ميشال عون، ولكن الملف الأمني الكبير تم فتحه ضد “القوات اللبنانية” باتهام بعض من تم القبض عليهم بأنهم يتعاملون مع إسرائيل ويحضرون للفتنة والانقلاب.

كان الهدف من هذه العملية تطويق “القوات اللبنانية”، وشل حركة ستريدا جعجع، وتكرار ما حصل مع “القوات” في عام 1994، عندما اعتبرت أنها قضت على هذا التنظيم الذي كان عسكرياً في الحرب، وتفاجأت بعد سبعة أعوام أنه لا يزال ناشطاً وأنه على الرغم من سجن قائده سمير جعجع استطاعت زوجته ستريدا أن تقوم بمهمة استنهاضه وإعادة تنظيمه. هذا التنظيم الذي ظهر في انتخابات البلديات في عام 1998، تكرر في مصالحة الجبل في عام 2001، ولذلك كان المطلوب تهديد ستريدا جعجع بأن مصيرها يمكن أن يكون مماثلاً لمصير زوجها، ولذلك انكفأت أمام الحملة كما انكفأ وليد جنبلاط.

لكن ليس سراً ان “مصالحة الجبل” كانت محطة أساسية أوصلت مع سلسلة محطات أخرى مثل 7 آب وقرنة شهوان والبريستول واغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، إلى انتفاضة 14 آذار التي كانت الأساس في قرار خروج الجيش السوري من لبنان، بعدما فاقت بأهميتها وحشدها مشهد حلفاء سوريا في 8 آذار، الذين كانوا يريدون، من خلال هذا الحشد الذي خطب فيه الأمين العام لـ “حزب الله” حسن نصرالله، الحؤول دون تنفيذ القرار 1559 وخروج الجيش السوري. ذلك الإنجاز كان تتويجاً لمسيرة التلاقي بين البطريرك صفير والمعارضة المسيحية و”القوات اللبنانية” وستريدا جعجع ووليد جنبلاط ورفيق الحريري.

إذاً البطريرك صفير كان خميرة هذه المصالحة، وفي المقلب الآخر كان الزعيم وليد جنبلاط يدرك أن الممر الإلزامي والضروري الذي يؤمن الراحة للجميع، هو الكنيسة او البطريركية التي تكرس كذلك التفاهمات التي كانت بدأت بين القوى الحزبية، وبين مشيخة العقل وبكركي.

لذلك لم تكن المصالحة موسمية، ولم تعكّرها تلك الصدامات التي افتعلها رئيس “التيار الوطني الحر” جبران باسيل في الجبل منذ أعوام قليلة، فهذه المصالحة أعادت الكثير من المسيحيين المهجّرين إلى الجبل وعمّقت العيش المشترك والاختلاط والعادات التي تكرّست منذ مئات السنين بعيداً من التجربة السابقة الأليمة.

ولا تزال بكركي والمختارة ضمانة لهذه المصالحة، علماً أنه مهما تعددت الأسماء والبطاركة الموارنة والزعماء الدروز، لا شيء سيؤثّر على المصالحة التي تعتبر محطة في السياق الطبيعي للحالة اللبنانية الميثاقية.

قد يكون ملف عودة المهجّرين هو ثمرة المصالحة، وقد لعب جنبلاط والبطريرك صفير وخلفهما “القوات اللبنانية” دوراً فس إيصال هذا الملف إلى برّ الأمان، رغم أنهم واجهوا صعوبات جمّة، سواء كانت في النفوس او في المال، وإجراء المصالحات بين من جعلتهم الحرب في مواقع العداوة، التي لا بد ان تنتهي بإنتهاء أسبابها الداخلية والخارجية.

مليارا دولار، صرفت على إعمار القرى المهجرة، وعلى التعويضات المختلفة، وعلى تبييض القلوب وغسلها، وعلى إعادة إعمار دور العبادة في كل قرية مهجرة، وعلى تعويضات الأَخِلاَّء من البيوت التي سكنها المهجرون قسراً بسبب الحرب، وهي للعلم، ليست جميعها، ولا أكثريتها في جبل لبنان الأوسط، الذي ناله القسط الأكبر من التهجير. وحتى بالأرقام والمبالغ، فإن ما دفع كتعويضات، في بيروت وفِي الشمال، وفِي مناطق أخرى، قد يزيد عما صرف في محافظة جبل لبنان بكاملها.

أقل من ملياري دولار، كانت كافية لإنهاء ملف التهجير، وعودة المهجرين، ومحو صورة الحرب البشعة عن وجه المناطق التي كانت أبنيتها مهدمة كلياً او جزئياً او مصابة بآثار مرض الجدري على جدرانها وأبوابها لكثرة ما اخترقها من رصاص وقذائف.

أقل من ملياري دولار أنتجت عودة الروح الى جسد الوطن بمصالحات كانت عند نهاية الحرب تبدو مستحيلة وضرباً من الخيال، بدأً من مصالحة معاصر الشوف، وما تلاها من اقفال ملفات القرى الاخرى، وانتهاءً بالمصالحة الكبرى المكللة ببركة البطريرك صفير.

ثمن قليل، لإنجاز بحجم الإعجاز، خصوصاً اذا ما طرح منه، بدل إخلاء وادي الذهب كما يسمونه، ومشاريع البنى التحتية للقرى والبلدات المهجرة، مع ان هذه المبالغ تشكل نقطة مضيئة لولاها لما تم إغلاق ملف التهجير.

أقل من ملياري دولار، ذهب القسم الأكبر منها لإعمار بيوت الفقراء وقراهم. واذا ما تسرب بعض الماء من بين الأصابع، وهو أمر طبيعي، في بلد خارج من الحرب، فإن التسرب لم يكن لمصلحة الباحثين عن الثروات بل لمن ليس على اجسادهم قميص يستر عوراتهم.

في 3 آب استذكرنا بطريرك المصالحة، فيما الجبل يعيش بكرامة ومحبة وعز ووئام وحياة مشتركة بين جميع ابنائه، وما كان ذلك لو لم يقف البطريرك صفير الى جانب الزعيم وليد جنبلاط، شابكا الايدي وعاقدا العزم من أجل لبنان الغد لا لبنان الحروب والفتن.

فهذه المصالحة هي صفحة مشعّة من كتاب البطريرك مار نصرالله بطرس صفير، هذا الكتاب التاريخي والوطني والسيادي، الذي أرسى مصالحةً كانت بمثابة الحلم بعد أحداث مؤسفة وأليمة، إلاّ أنّه وبما يملكه من عزيمة وطول أناة وجرأة وباع طويل، استطاع أن يعيد المسيحيين إلى أرضهم وممتلكاتهم وأرزاقهم وإلى أهلهم من الدروز ومن كل الطوائف، زارعًا بسمةً غابت لسنوات وسنوات، ومن هنا لا يترك جنبلاط مناسبةً إلاّ ويستذكر خلالها البطريرك صفير، مشيدًا بدوره وعظمته.

ويبقى أنّ أهل الجبل سيتذكرون إنجازاته ووقفاته وبصماته وكل ما قام به لأجل هذه المصالحة، في حين لن ينسى كل مواطن لبناني شريف أنّ هذه القامة الوطنية أرست أيضًا الاستقلال الثاني وأنهت عهد الوصاية!

يشارك:

اضغط على مواقع التواصل ادناه لتتلقى كل اخبارنا

آخر الأخبار

مجموعة السلام النسائية الدولية تختتم مسابقة الفن المحب للسلام الدولية السادسة

أخباركم - أخبارنا عقدت مجموعة السلام النسائية الدولية (IWPG)، برئاسة السيدة هيون سوك...

لأول مرة بعد وقف إطلاق النار: الجيش واليونيفيل معاً في بنت جبيل .. غارات اسرائيلية: تابع .. سقوط صاروخ من دون أن ينفجر في...

تقرير لبنان وسوريا الميداني للمرة الاولى وبعد وقف اطلاق النار، جالت آليات لقوات الطوارئ مع...

خلافات داخل الحرس الثوري الايراني بعد سقوط الأسد ومطالبات باستبدال قآني.. سلامي: لم نتأثر ولن نضعف!

أخباركم - أخبارنا بعد سقوط حليفها بشار الأسد في سوريا، أكدت إيران على لسان...

ممانعة ماذا؟ .. سوف تطول المدة لفهم ما جرى ويجري!

أخباركم - أخبارنا كتبت د جمال قرى يحيل الواقع الجديد في منطقتنا الذي بدأ بالارتسام...

More like this

ممانعة ماذا؟ .. سوف تطول المدة لفهم ما جرى ويجري!

أخباركم - أخبارنا كتبت د جمال قرى يحيل الواقع الجديد في منطقتنا الذي بدأ بالارتسام...

تفاصيل العشاء الأخيرلـ “بشار الأسد” وسط تبدلات الحلفاء وتراجع النفوذ!

كتب مسعود محمد لـ أخباركم - أخبارنا في إحدى الليالي المشحونة بالتوتر في دمشق،...

سوريا بين مفترق الطرق: ديمقراطية تعددية أم تقسيم محتمل؟

كتب مسعود محمد لـ " أخباركم - أخبارنا" مع سقوط نظام بشار الأسد واحتدام...