أخباركم – أخبارنا / د. محمد علي مقلد
ويستمر النقاش حول أدوار نائبة المبعوث الأميركي مورغان أورتاغوس التي شبّهها الكاتب السياسي يوسف مرتضى عبر موقعنا بشخصية غازي كنعان، ليأتي رد الدكتور محمد علي مقلد في مقالة ننشرها لاستكمال الحوار حول المنتظر.
التدخل السوري والتدخل الأميركي في لبنان متشابهان، في نظر البعض. فقد جمع الصديق يوسف مرتضى بين بطليهما، غازي كنعان وموران أورتاغوس، تحت اسم واحد “موران كنعان”. مثل هذا التشبيه يفضي إلى استنتاجات خاطئة وتشخيص مغلوط، ويصعّب بالتالي على المعنيين التوصل إلى حلول.
هو يبرئ العوامل الداخلية ويحمل الخارجية منها المسؤولية عن أزمات الوطن، ويجعل التاريخ خطًا مستقيمًا ثابتًا لا يحول ولا يزول، تمّحي فيه الفوارق فيصير لبنان قديمًا قدم الأديان والكتب السماوية. لبنان ثابت والخارج هو المتحول، من الغزو الفارسي واليوناني والروماني إلى الفتح العربي والعثماني إلى الانتداب والوصايات والاحتلالات.
استنتاج مفاده أن لبنان ولد هكذا وهكذا سيبقى. “فالج لا تعالج”. إحباط وهجرة، ومنظومة تلعب دور وكيل تفليسة لنظام مؤبد كنظام “الأسد إلى الأبد”. ومعناه الكارثي تكرار الخطاب الذي مهّد للحرب الأهلية ثم فجّرها.
من ناحية أولى، لبنان ليس ثابتًا. بعد 1920 ليس كما قبله. كان مجموعة ولايات ومقاطعات يحكمها ولاة يعينهم السلطان. صار وطنًا وجمهورية لها حكام منتخبون من قبل الشعب، ولها دولة ودستور وقوانين، وانتقل إلى حضارة جديدة وبات حبل صرّته مربوطًا برحم الغرب الرأسمالي بعد أن كان مربوطًا إلى حبل الصرّة العثماني. تلك اللحظة الفاصلة بين نهاية الاستعمار القديم واستقلال الأوطان ليست تفصيلًا بسيطًا أو ثانويًا، ومن علاماتها الفارقة استقلال لبنان عن السلطنة لا عن الاستعمار.
من ناحية ثانية، الوصاية السورية تمثل استعادة لسيطرة سلطانية قوامها جمع الأتاوات وتجنيد الأتباع في إنكشارية المخابرات، فيما “الوصاية” الأميركية تمثل سيطرة رأسمالية قوامها الانخراط في شبكة معقدة من المصالح الاقتصادية المغلفة بزينة الحرية والاستقلال السياسي.
الوصاية الرأسمالية، الفرنسية سابقًا أيام المندوب السامي هنري غورو، والأميركية لاحقًا من فيليب حبيب حتى مورغان أورتاغوس، تعمل ما تراه يفيد مصالح دولها. لكن ما من شيء مجاني ولا مجال للتشبيح. لكل شيء ثمن. تجارة قد لا تكون عادلة، لكنها أخذ وعطاء، تقدّم مقابل ما تطالب به، من الجامعتين الأميركية واليسوعية والإرساليات والمدارس والعِلم إلى سكك الحديد والمواصلات وكل وسائل الاتصال والتواصل. كل ذلك من نعيم الحضارة الرأسمالية بشكليها الاستعماري والعولمي. أما الوصاية السورية فقد دمّرت كل شيء: السيادة والحدود والدولة والكرامة والثقافة. أخذت ولم تعطِ. أعادت لبنان إلى مرحلة السلطنة وعيّنت عليه واليًا وصارت هي الباب العالي.
قد تتعاون الوصايات وقد تتطابق مصالحها. الرئيس الفرنسي جاك شيراك تحوّل من دعم النفوذ السوري في لبنان إلى دعم الاعتراض عليه. جورج بوش الأب أهدى نظام الأسد امتياز الوصاية مقابل انخراط الأخير في حرب الخليج ضد نظام صدام حسين، وجورج بوش الابن أخرج الجيش السوري من لبنان. التقى النظامان الإيراني والسوري على الاستثمار في القضية الفلسطينية وعلى تغريم شعوب المنطقة – الفلسطيني واللبناني والعراقي والسوري – بدفع الأتاوة: قتل البشر وتدمير الدول. حتى الخصوم قد تتطابق مصالحهم. إسرائيل وحماس تعاونا ضد الدولة في رام الله من غير أن يجمعهما وجه شبه.
مورغان أورتاغوس أملت على لبنان شروطًا، هذا صحيح، لكنها شروط لصالح إعادة بناء الدولة، من خلال الالتزام بأحكام الدستور والقيام بإصلاحات مالية ومصرفية وسياسية وتنفيذ القرارات الدولية، مقابل الإفراج عن المساعدات. أما غازي كنعان فكان يكتفي بشرط الطاعة ودفع الأتاوة وبيع الكرامة وشراء الذمم.
هذه المقارنة لا تلغي حقيقة انحياز الولايات المتحدة الفاضح لصالح الصهيونية، لكنها لا تحتاج إلى نبش مصطلح “الإمبريالية أعلى مراحل الرأسمالية” أو إلى فتح ملفات الصراعات والاصطفافات الدولية والحنين إلى مرحلة الثنائية القطبية.