كتب ميشال ن. أبو نجم: ليس من المبالغة بشيء مقاربة معركة اللامركزية اليوم بأنها أقسى من المواجهة مع السيطرة السورية بين ١٩٩٠- ٢٠٠٥. لا يعني ذلك بالتأكيد تفضيل الخارج العربي على الداخل اللبناني، لكن طبيعة النضال ضد الهيمنة الخارجية تبقى أقل وطأة من إعادة تشكيل النظام الداخلي السياسي والإجتماعي والمالي. كيف لا والتيار الوطني الحر يمد إصبعه في اتجاه قدس أقداس جمهورية الطائف، عبر تأكيد جوهرية إعادة التوزيع المالي وفقاً لأسس أكثر عدالة مناطقياً. هذا بحد ذاته رفعاً ليد نبيه بري نسبياً عن الإستئثار المالي. هنا جوهر القصيد.
فالتعبير الخطابي في التخفيف من ركائز اللامركزية الأساسية، وخاصة على لسان الثنائية الشيعية وتحديداً “أمل” ونوابها، يكشف المستور. فاللامركزي بالنسبة إليهم هي إجراء أقرب إلى لا حصرية إدارية، مستثنين منها الإستقلال الإداري والأهم المالي، ومن دونهما لا داع لتسمية اللامركزية باسمها أساساً!
هنا، تتوضح أكثر محورية المسار الذي يشقه “التيار”، بتواطؤ مسيحي بطبيعة الحال، لأن أي قوة مسيحية لن يكون بإمكانها رفض ما يمكن أن يتحقق في هذا الإطار، تحت طائلة ظهورها بمظهر المخالف لوجدان مجتمعها. ويمكن اعتبار هذه المحطة، لا تقل مصيرية عن محطات استعادة الشراكة والتوازن في النظام السياسي اللبناني، من قانون الإنتخابات إلى رئاسة الجمهورية وكيفية تشكيل الحكومات والعودة إلى الإدارة. على أنَّ عنوان اللامركزية الحقيقية اليوم، هو أشد أهمية.
الأمر ليس متصلاً فقط بشعور المسيحيين بالإرتياح في ظل نفورهم من إدارة منظومة الطائف للشأن العام، ما زاد من هواجسهم في ظل كل ما جرى، وصولاً إلى انفجار المرفأ وتداعياته التهجيرية.
إنها في شكل من الأشكال، إعادة صياغة للنظام السياسي من تحت، وفتح نافذة لكل التكلس والشلل والتعطل الحاصلين منذ ال٢٠٠٥، وتحول استراتيجي في بنية النظام يفتح أفقاً لتنافس أفضل في سبيل التنمية والنهوض وإدارة الشأن المالي والإقتصاد. وبالتالي هناك انعطاف كبير لا في طرح جبران باسيل بل في بنية النظام واشتغاله، ما يجعل من هذه المحطة مفصلية كما في تحولات فؤاد شهاب التأسيسية.
فقد بات تاريخ فرنسا اليوم لا يقتصر على ثورة ١٩٦٨ أو تعاقب الجمهوريات بل دخل منعطف ١٩٨٢ في سجل هذه التواريخ، مع إقرار اللامركزية في قانون Deferre في الجمهورية المتمسكة تاريخياً بمركزية قاسية “يعقوبية”. ولا يزال هذا المسار في تطور ونقاش دائمين، وصولاً إلى تكريس المناطق régions، وتحت سقف اللامركزية من دون الدخول في الخطاب التهويلي عن “الفدرالية” و”الإنفصال” وما شابه…
على أن التيار الوطني الحر يدخل هذا المسار وهو يدرك ما سيواجهه. يعلم جيداً أن منظومة التسعينات بقيادة نبيه بري، ستسعى قدر الإمكان إلى التخفيف من الإستقلالية المالية ولو الصغيرة، لمجالس الأقضية المنتخبة، وفقاً لكل التصورات الواقعية عن اللامركزية. وفي تاريخ المواجهة مع بري، ما يمكن “التيار” من توقع ردود الفعل ومحاولات التهويل والتجويف. هنا، يستعد “التيار” ورئيسه ونوابه، لكل ذلك، بأداة أساسية هي الواقعية والتفكير العلمي.
في جعبته ما وصل إليه النقاش في المجلس النيابي حول اللامركزية، بمشاركة جميع الكتل النيابية. وهو نقاش طاول بين ٦٠ و٧٠ بالمئة من مسار اللامركزية، بحسب ما يكشف النائب آلان عون المتابع لهذا الملف.
إلى ذلك، ليست التنمية المتوازنة وإشراك ممثلي المناطق على الصعيد الإدارية، مطلباً فئوياً مسيحياً أو “تيارياً” بقدر ما يستجيب لتطلعات لبنانية في الإدارة المناطقية والمشاركة النسبية في القرار النالي والتنموي، وفي الوجدان الشيعي و”الأملي” ما يكفي من شعارات عن “الحرمان” المناطقي المزمن وخاصة للبقاع والجنوب، إضافة الى عكار، ما يعزز هذا التطلع اللامركزي، لو لم يكن هناك رهانات أخرى تتمثل بالسيطرة على القرار المالي وتجويف الدولة من دون أي خطة واضحة للنهوض والتنمية.
التفكير العلمي المستقبلي هو حجة قوية حتى لو أن الأداء السياسي اللبناني لمنظومة الطائف لم يبنَ يوماً إلا على الهروب إلى الأمام ورمي الخطط والمشاريع في الجوارير. أثبتت تجربة الإدارة بعد الكائف الفشل الذريع للملف المالي والتنموي، ولم ينجح تجويف الدولة بنزع الحرمان عن مناطق بأكملها. في المقابل، تمثل بعض التجارب الناجحة والمضيئة في مناطق وبلديات معينة، سواء في الكهرباء أو السياحة أو المشاريع الصناعية والإقتصادية، مبادرات تعزز من نجاح اللامركزية والتخفيف عن الدولة المركزية المُثقَلة بالإفلاس والفشل.
هذا لا يعني أن اللامركزية هي الحل السحري من دون وجود دولة فاعلة، لكنها على الأقل البداية نحو تغير كبير في إدارة الشأن العام وبداية تخففٍ من السيطرة والإستئثار على الدولة.
تحت عنوان اللامركزية، يمد التيار الوطني الحر يده إلى هيكل المنظومة السرّي. المعركة كبيرة وهو لا يعوزه الصبر والتعبير عن مصالح لبنانية عامة. في الواقع السياسي ما يساعد. الشرخ الأخير والمعبّر بين “التيار” وحزب الله، من شأنه تسليط الضوء على إعادة صياغة اتفاقات ولو بالقطعة، ومن بينها اللامركزية. والمسألة بالنسبة للتيار ليست مقايضة بل ثوابت ومكاسب لبنانية، لا بل تحولات جذرية ولو أتت على حساب رئاسة الجمهورية، مع أنه من المبكر جداً لا بل من الخاطئ الإستنتاج بأن “التيار” وافق على سليمان فرنجية مقابل اللامركزية.
الأخطر والأدق في هذا المسار، أن بديل رفض اللامركزية سواء بالشكل أو بمحاولة تجويفها، سيكون المزيد من الإحتقان المسيحي والتشدد في اتجاه خيارات “انفصالية”…
وهذا ما لا يريده “الحزب” ولا “التيار” أصلاً…