أخباركم – أخبارنا/ بقلم: مسعود محمد
مدخل تاريخي: من اللجوء إلى الثورة
خرج خليل الوزير “أبو جهاد” من فلسطين طفلاً لاجئاً، وعاد إليها شهيداً لا جسداً. بين الخروج والعودة، خطّ دربًا ثوريًا عبَر العواصم والمخيمات والجبهات، حاملاً البوصلة نحو فلسطين. لكنه في منتصف الطريق، واجه ما لم يكن بالحسبان: حين انحرفت الثورة، لا عن قصد، بل بفعل التحالفات والسلاح والانقسامات، عن وجهتها الأصلية، وانزلقت نحو جونية.
حين ارتبكت البوصلة: الثورة في جونية بدل فلسطين
في خضم الحرب الأهلية اللبنانية عام 1975، وجدت فصائل المقاومة الفلسطينية نفسها متورطة – مكرهة أحياناً ومندفعة أحياناً أخرى – في الصراع الداخلي اللبناني، وخصوصاً في المواجهة مع القوى المسيحية في جبل لبنان، وفي مقدمتها الكتائب والقوات اللبنانية.
جونية، المدينة الساحلية المسيحية ذات الرمزية السياسية والروحية، لم تكن يوماً جزءًا من جبهة القتال ضد إسرائيل. لكنها تحولت بفعل الانهيار العام، إلى ساحة مواجهة، فانزلقت الثورة نحو الداخل اللبناني، بعيداً عن الجنوب والحدود، بعيداً عن فلسطين.
في هذه اللحظة تحديداً، خسرت الثورة جزءاً من شرعيتها في نظر اللبنانيين، وفتحت الباب أمام تحالف اليمين اللبناني مع إسرائيل، بحثًا عن الحماية من “احتلال فلسطيني” داخلي، كما صوّره إعلام اليمين حينها.
أبو جهاد بين الانخراط والانفكاك
لم يكن خليل الوزير غريباً عن هذه اللحظة، ولا غافلاً عنها. كان أحد القادة الأساسيين في غرفة القرار. لكنه، بخلاف بعض الفصائل التي انساقت نحو المعركة اللبنانية، أدرك مبكرًا خطورة التورط الكامل في الحرب الأهلية. حاول أبو جهاد الحفاظ على معادلة دقيقة: حماية الوجود الفلسطيني، دون التورط في صراعات داخلية، لكن الواقع فرض نفسه، وفُرض على الثورة أن تُجرّ إلى أكثر من جونية، إلى كل لبنان.
ولم يكن هذا الفشل جزئياً، بل استراتيجيًا. فقد سقطت بيروت في 1982، وغادر الفلسطينيون لبنان، ومعهم أبو جهاد. لكن الغياب عن الجغرافيا لم يكن نهاية الطريق.
تصحيح البوصلة من المنفى: تونس وفجر الانتفاضة
من تونس، البعيدة عن حدود فلسطين، بدأ خليل الوزير عملية تصحيح المسار. لم يكن يملك سلاحاً ولا قواعد، لكن كان لديه أهم سلاح: الشارع الفلسطيني.
في العام 1987، كان هو مهندس الانتفاضة الأولى، التي انطلقت من غزة ورام الله والخليل، لا من جونية أو النبطية.
انتفاضة شعبية، غير مسلّحة، خرجت من قلب الأرض المحتلة، وأعادت القضية إلى موقعها الطبيعي: داخل فلسطين، لا في المنافي أو في الحروب العربية البينية.
بهذا المعنى، كان اغتيال أبو جهاد في 16 نيسان 1988 تتويجًا لمحاولته إعادة البوصلة إلى مكانها.
لم تغتله إسرائيل لأنه قاتلها في لبنان، بل لأنه أيقظ ضدها شعباً كاملاً داخل الأرض المحتلة.
ما الذي يعنيه “استبدال فلسطين بجونية”؟
- شرعية الثورة تنهار عندما تتورط في حروب الآخرين
حين وجدت الثورة نفسها تقاتل في أحياء لبنانية بعيدة عن خطوط النار مع إسرائيل، بدا وكأن القضية تحوّلت من حركة تحرير إلى طرف في حرب أهلية.
انتهت صورة الفدائي المناضل، وبدأت صورة “المتدخل المسلح” بالظهور.
- اليمين اللبناني لم يلجأ إلى إسرائيل إلا بعد أن شعر بالتهديد الوجودي
لم تكن العلاقة بين اليمين اللبناني وإسرائيل حتمية. بل جاءت كخيار اضطراري، بعد أن أصبح الفلسطينيون قوة عسكرية داخلية تتحدى توازنات الطوائف.
جونية كانت اختبارًا لسقوط مفهوم “الحياد اللبناني” في الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي.
- أبو جهاد فهم المأزق، لكنه لم يمنعه… بل تجاوزه
لم يكن في وسعه منع كل الانزلاقات، لكنه امتلك الشجاعة الفكرية والسياسية للعودة إلى أصل القضية: الشعب الفلسطيني هو الفاعل، لا الأرض المستضيفة.
وبالانتفاضة، أثبت أن الثورة لا تحتاج إلى مدافع ودبابات في بيروت، بل إلى وعي وكرامة في نابلس وغزة.
دروس من جونية إلى غزة
في ذكرى استشهاد أبو جهاد، نعيد قراءة أخطائنا.
الثورة التي تقاتل خارج حدودها تتحوّل إلى ميليشيا. والقضية التي تُدار من فنادق العواصم تموت.
لكن في لحظة الوعي، كما فعل أبو جهاد في تونس، يمكن للمقاومة أن تعود إلى جذورها.
وهذا ما يجعل من ذكراه ليس فقط ذكرى اغتيال، بل ذكرى نهضة، وتصحيح، وانطلاق جديد.
هل تعي حماس وتتعظ؟