أخباركم – أخبارمنا/ بقلم: مسعود محمد
في 25 أبريل 2025، يصادف مرور 80 عامًا على نهاية الحرب العالمية الثانية في إيطاليا، والتي كانت بمثابة لحظة فارقة في تاريخ البلاد والعالم. في هذا اليوم، تُحتفل إيطاليا بـ “عيد التحرير” (Festa della Liberazione) وهو يوم يُخلّد انتصار الحلفاء، ويستذكر تضحيات الشعب الإيطالي في مقاومة الاحتلال النازي والفاشي، وتحرير البلاد من سيطرة النظام الفاشي الذي استمر تحت حكم بينيتو موسوليني حتى عام 1945.
الحرب العالمية الثانية وإيطاليا: من الحلفاء إلى النازيين
قبل أن تندلع الحرب العالمية الثانية في عام 1939، كانت إيطاليا تحت حكم بينيتو موسوليني، الزعيم الفاشي الذي عمل على تحويل إيطاليا إلى دولة دكتاتورية فاشية. بدأ موسوليني حكمه في عام 1922، ونجح في إرساء أسس النظام الفاشي الذي بدأ يوسع نفوذه في البحر الأبيض المتوسط ويطمح للهيمنة على أجزاء من شمال أفريقيا. وقد تحالف موسوليني مع أدولف هتلر، زعيم النظام النازي في ألمانيا، في ما عرف بالتحالف “المحور”، وكان هذا التحالف أحد الأسباب الرئيسية لاندلاع الحرب.
ولكن مع مرور الوقت، أثبت هذا التحالف أنه كان قيدًا على إيطاليا أكثر من كونه ضمانًا للهيمنة. ففي عام 1943، بعد سلسلة من الهزائم العسكرية، تعرضت إيطاليا لضغط شديد من قبل الحلفاء، حيث تمكنوا من غزو صقلية في يوليو من العام نفسه. في سبتمبر 1943، بعد الإطاحة بموسوليني من السلطة واعتقاله، وافقت الحكومة الإيطالية الجديدة على الاستسلام للحلفاء.
الاحتلال الألماني والصراع الداخلي
في أعقاب الاستسلام الإيطالي، دخلت البلاد في فترة من الفوضى، حيث سيطرت القوات الألمانية على معظم الأراضي الإيطالية الجنوبية والشمالية. ومن هنا بدأ الاحتلال الألماني، الذي استمر حتى تحرير البلاد في عام 1945. وقام النازيون بتشكيل حكومة دمية فاشية بقيادة موسوليني، الذي تم تحريره بعد عملية إنقاذ في شمال إيطاليا، ليؤسس جمهورية سالو الموالية لهتلر. وكان هذا الاحتلال مصدر معاناة للشعب الإيطالي، حيث تعرضوا للاضطهاد والقتل على يد القوات النازية.
في المقابل، شهدت إيطاليا حركة مقاومة قوية ضد الاحتلال الفاشي والنازي، والتي كانت مكونة من مجموعات من المدنيين والمجاهدين الشيوعيين واليساريين والقوميين. كان هؤلاء المقاومون يعرفون باسم “الماوتي” (i partigiani)، وواصلوا الهجمات على القوات الألمانية والفاشية طوال فترة الاحتلال. وقد خاضت هذه الجماعات المعركة في المناطق الجبلية والصعبة في شمال إيطاليا، وشكلت معركة حاسمة لمستقبل البلاد. وقد قوبل هذا النضال بوحشية من جانب قوات الاحتلال الألمانية، التي قامت بارتكاب العديد من المذابح ضد المدنيين، كما في مذبحة مارزابوتو في عام 1944.
25 أبريل 1945: يوم التحرير
مع دخول قوات الحلفاء من الجبهة الجنوبية في إيطاليا، وبعد سلسلة من الهزائم التي لحقت بالقوات النازية والفاشية، بدأ نضال الشعب الإيطالي يثمر ثماره. في 25 أبريل 1945، أطلقت حركة المقاومة الإيطالية في شمال البلاد عملية تحرير واسعة، بالتنسيق مع القوات المتحالفة في الجنوب. تم تحرير ميلانو، تورينو، وجنوى، حيث كانت هذه المدن مراكز حيوية للاحتلال النازي. واحتفل الإيطاليون في كافة أنحاء البلاد بالتحرير، حيث تم إلقاء القبض على موسوليني في 27 أبريل، ووفقًا للتاريخ، تم إعدامه على يد قوات المقاومة في 28 أبريل 1945.
بفضل جهود المقاومة الإيطالية والضغوط التي مارسها الحلفاء، انتهى الاحتلال الألماني للفترة الفاشية، وأُزيلت حكومة موسوليني في الشمال. وفي 2 مايو 1945، استسلمت القوات الألمانية في إيطاليا رسميًا، وكان ذلك بمثابة النهاية الفعلية للاحتلال النازي في البلاد.
ثوار إيطاليا و”بلا تشاو”: نضال من أجل الحرية في مواجهة الفاشية
من أبرز رموز نضال المقاومة الإيطالية هي أغنية “بلا تشاو” (Bella Ciao)، التي تحولت إلى نشيد شعبي دولي وارتبطت ارتباطًا وثيقًا بثوار إيطاليا. ظهرت الأغنية لأول مرة في بداية الأربعينيات، حين كانت تُغنى من قبل العاملات في حقول الأرز في شمال إيطاليا. سرعان ما أصبحت هذه الأغنية رمزًا لثوار المقاومة ضد الاحتلال النازي والفاشي، حيث كان المقاومون يشددون على نضالهم ضد الظلم والطغيان.
تشير كلمات الأغنية إلى توديع المقاوم لأهله قبل أن يذهب للقتال، مع عزم على العودة منتصرًا في حال نجحت المقاومة. ومع مرور الوقت، تحولت “بلا تشاو” إلى أغنية تعبيرية عن إرادة الشعوب في مقاومة الاحتلال والتضحية من أجل الحرية. تُعتبر الأغنية اليوم رمزًا عالميًا للمقاومة ضد الطغيان، وقد أصبحت تُغنى في العديد من الاحتجاجات حول العالم.
نساء إيطاليا المقاتلات في الحرب:

خلال الحرب العالمية الثانية، لعبت النساء الإيطاليات دورًا محوريًا في مقاومة الاحتلال النازي والفاشي، على الرغم من التحديات الاجتماعية والسياسية التي فرضها المجتمع الإيطالي في تلك الحقبة. لقد كانت النساء جزءًا لا يتجزأ من الحركة المقاومة، حيث انضممن إلى صفوف “الماوتي” (i partigiani)، المجموعات المسلحة التي قادت النضال ضد الفاشية. لم تقتصر مشاركتهن على الدعم اللوجستي أو العمل الطوعي، بل شاركن في العمليات العسكرية، وتخفين في الغابات والجبال، وشاركن في الهجمات ضد القوات الألمانية والفاشية. العديد منهن تعرضن للاعتقال، والتعذيب، والإعدام، ولكنهن ظللن رموزًا للبطولة والتضحية. هؤلاء النساء اللواتي قدمن حياتهن في سبيل تحرير إيطاليا من الفاشية، كان لهن دور أساسي في إعادة بناء المجتمع الإيطالي بعد الحرب، وأصبحن مصدر إلهام للجيل الذي جاء بعدهن، إذ شكلت قصصهن الشجاعة جزءًا لا ينسى من التاريخ الإيطالي المعاصر.
الإرث التاريخي ليوم التحرير
اليوم، يعد “عيد التحرير” في إيطاليا من أهم المناسبات الوطنية، ويحتفل به الإيطاليون سنويًا بإحياء ذكرى النضال ضد الفاشية والنازية. يعكس هذا اليوم الاعتراف بتضحيات الشعب الإيطالي، سواء من خلال القتال المباشر ضد الاحتلال أو من خلال تقديم الدعم للمقاومة. كما يمثل يومًا يتم فيه التأكيد على أهمية الحرية والديمقراطية في وجه الطغيان.
إضافة إلى ذلك، يعد يوم 25 أبريل فرصة لتذكير الأجيال الجديدة بتاريخ البلاد النضالي، وتعزيز الثقافة الوطنية التي ترفض الفاشية وتدافع عن القيم الإنسانية. في هذا اليوم، يتم تذكر الجنود الإيطاليين، والمقاومين، والمدنيين الذين فقدوا حياتهم من أجل حرية إيطاليا.
التحديات المعاصرة والذكرى المستمرة
في الوقت الذي تحتفل فيه إيطاليا بذكرى التحرير، فإن هناك تحديات جديدة تواجه البلاد على المستوى السياسي والاقتصادي. ففي السنوات الأخيرة، ازدادت المشاعر المناهضة للفاشية في بعض أوساط المجتمع الإيطالي، ما يذكرنا بضرورة التمسك بالقيم التي دفع الشعب الإيطالي ثمناً باهظاً من أجل الحفاظ عليها. ومن المهم أن تظل الذكرى الحية ليوم التحرير حاضرة في الوعي الجماعي، خاصةً في ظل تصاعد الخطاب العنصري في العديد من أنحاء العالم.
إن “عيد التحرير” ليس مجرد ذكرى لحرب ماضية، بل هو دعوة مستمرة للتأمل في الطريق الذي سلكته إيطاليا من أجل الحرية والمستقبل. وفي هذا السياق، تظل إيطاليا اليوم واحدة من القوى البارزة في الاتحاد الأوروبي، وتسعى دائمًا للوقوف ضد أي تهديد للقيم الديمقراطية التي أنقذها من أيدي الفاشية والنازية قبل 80 عامًا.
في الختام، تظل إيطاليا تحمل في طيات ذكرى 25 أبريل 1945 عِبَرًا تظل تذكرنا بمخاطر التسلط والاستبداد، وأهمية الوحدة والنضال من أجل السلام والحرية.
الثوار الإيطاليون ووراثهم: تأثير أنطونيو غرامشي واليسار الإيطالي

النص المكتوب في الصورة هو: تحركوا، لأننا بحاجة إلى كل حماستكم. نظموا أنفسكم، لأننا بحاجة إلى كل قوتكم. ادرسوا، لأننا بحاجة إلى كل ذكائكم.
لقد شكلت حركة المقاومة الإيطالية ضد الفاشية والنازية في خلال الحرب العالمية الثانية إحدى اللحظات الفارقة في تاريخ البلاد. في إطار هذه الحركة، كان للثوار الإيطاليين دورًا محوريًا في تحرير البلاد، حيث كانت المقاومة تتكون من مجموعات متنوعة تمثل شرائح مختلفة من المجتمع الإيطالي، من بينها الشيوعيون، الاشتراكيون، القوميون، والليبراليون، وكلهم كانوا موحدين في هدفهم الأساسي: مقاومة الاحتلال واستعادة السيادة الوطنية.
كان اليسار الإيطالي أحد أبرز القوى الداعمة للحركة المقاومة في فترة الحرب، ومن أبرز الشخصيات التي ارتبطت بفكر اليسار الإيطالي خلال تلك الفترة هو المفكر الشيوعي أنطونيو غرامشي. غرامشي، الذي قضى جزءًا من حياته في السجن تحت الحكم الفاشي، لم يكن فقط مفكرًا بل كان أيضًا رمزًا نضاليًا لما كان يعرف بـ “الثوار الفقراء” في إيطاليا. ظهرت أفكاره حول الهيمونية الثقافية وأهمية العمل الشعبي والسياسي في بناء وتثبيت الوعي الطبقي. غرامشي كان يعتقد أن تحرير الشعب لا يأتي فقط من خلال تغيير النظام السياسي، بل يجب أن يشمل أيضًا معركة ثقافية لتغيير الوعي الجماعي.
على الرغم من أن غرامشي لم يعش ليشهد انتصار المقاومة الإيطالية على الفاشية، فإن فكره ألهم جيلًا من المفكرين والناشطين الذين ساهموا في تشكيل هويتهم الثورية والفكرية في السنوات التي تلت الحرب. كان اليسار الإيطالي، ولا سيما في مرحلة ما بعد الحرب، يدعو إلى إعادة بناء المجتمع بشكل يتجاوز البنية التقليدية للرأسمالية، مع التركيز على العدالة الاجتماعية والمساواة.
تأثير غرامشي كان واضحًا أيضًا على حركات اليسار حول العالم، حيث اتخذت أفكاره حول الهيمنة الثقافية وتوسيع رقعة النضال الجماهيري أساسًا لفهم نضال الطبقات الشعبية في أماكن مختلفة من العالم. ومع ذلك، كان للحركة الشيوعية في إيطاليا علاقة معقدة مع فصائل المقاومة الأخرى، وخاصة في سياق التشابك السياسي في مرحلة ما بعد الحرب، عندما كانت هناك مفاوضات وشراكات بين القوى المتنوعة، مما جعل اليسار الإيطالي جزءًا من عملية بناء الجمهورية الإيطالية الحديثة.
اليسار الإيطالي في الفترة ما بعد الحرب العالمية الثانية شكل القوة السياسية الكبرى في البلاد لفترة طويلة، وأصبح له دور أساسي في بناء دولة ما بعد الفاشية. كانت حركة المقاومة في فترة ما بعد التحرير بمثابة المنصة الرئيسية لإعادة بناء الدولة، وبناء جسر سياسي بين الماضي الفاشي والمستقبل الديمقراطي.
لكن في السنوات الأخيرة، بدأ اليسار الإيطالي يعاني من تآكل شعبيته، حيث حدث تحول في السياسات الاقتصادية والاجتماعية التي تم تبنيها من قبل الحكومة. على الرغم من ذلك، لا يزال للثوار الإيطاليين، وأيديولوجيات مثل تلك التي قدمها غرامشي، تأثير قوي على الفكر السياسي الإيطالي الحديث، ويظل إرثهم جزءًا من الحوار السياسي في البلاد، حيث يستمر الفكر اليساري في شكل حركات صغيرة تتبنى القيم التي نشأت في مقاومة الفاشية.
أنطونيو غرامشي: إرث غير معروف لدى الجيل الجديد في إيطاليا
في إيطاليا، يبقى المفكر السياسي والفيلسوف أنطونيو غرامشي أحد أبرز الشخصيات الفكرية التي أسهمت في تشكيل الفكر الشيوعي والإيديولوجيات اليسارية. إلا أن إرث غرامشي، رغم تأثيره العميق في تاريخ البلاد الفكري والسياسي، بات مغمورًا لدى الجيل
الجديد من الإيطاليين، الذين يفتقرون إلى الوعي الكامل بأفكاره.
أنطونيو غرامشي، الذي وُلِد في عام 1891 وتوفي في 1937، كان أحد مؤسسي الحزب الشيوعي الإيطالي وأحد المفكرين الأكثر تأثيرًا في الفكر الماركسي. اشتُهر بنظرياته حول الهيمونية الثقافية، حيث أكد على ضرورة أن يتمكن الطبقات الشعبية من السيطرة على الثقافة والنظام الاجتماعي من خلال تقويض الأيديولوجيات السائدة. كما كان له تأثير كبير في فهم العلاقة بين السياسة والثقافة.
لكن، بينما يحتفل المفكرون والأكاديميون في إيطاليا وحول العالم بأفكار غرامشي، أصبح تأثيره في الحياة السياسية الإيطالية أقل وضوحًا. والسبب في ذلك جزئيًا هو تراجع اليسار الإيطالي في العقود الأخيرة، وتبدل الوعي السياسي في البلاد، حيث أصبح الجيل الجديد يركز على قضايا اقتصادية واجتماعية جديدة دون الرجوع إلى تلك الأفكار القديمة.
كما أن تاريخ غرامشي كأحد رموز المقاومة الفاشية قد يتلاشى لدى الشباب الإيطالي الذين لم يعيشوا حقبة الحرب العالمية الثانية، بل يُشَكّك في معرفة الكثير من الجيل الجديد عن نضاله في السجون الإيطالية ضد الفاشية، أو عن أفكاره التي خلّدت الثورة الثقافية والاجتماعية.
إذا كان غرامشي قد شكل مرجعية أساسية لفهم النضال الشعبي ضد الظلم الاجتماعي والسياسي في فترة الحرب العالمية الثانية، فإنه اليوم، وبعد ثمانين عامًا من وفاته، يظل فكره في حاجة إلى استعادة جديدة، خصوصًا في مواجهة تحديات العصر الحديث. الجيل الجديد في إيطاليا قد يواجه صعوبة في فهم أفكار غرامشي وفلسفته في ظل المشهد السياسي والاقتصادي المعاصر، مما يستدعي ضرورة الاهتمام بإحيائها في المناهج الدراسية وفي الخطاب السياسي والاجتماعي من جديد.
اليوم، يبقى السؤال مفتوحًا: هل سينجح الفكر الغرامشي في العودة إلى الساحة الفكرية والسياسية في إيطاليا، أم أن الجيل الجديد سيواصل السير في طريقٍ بعيد عن هذه الأفكار العميقة، التي كانت على مدى العقود الماضية مرشدًا للكثير من الحركات السياسية والاجتماعية؟
الجيل الجديد في إيطاليا: حالة ضياع فكري وسياسي
في إيطاليا، يعيش الجيل الجديد حالة من الضياع الفكري والسياسي، حيث يفتقر إلى الوعي العميق بالقيم والأيديولوجيات التي شكلت تاريخ البلاد، خاصة تلك التي نشأت من الفكر اليساري وحركة المقاومة الإيطالية ضد الفاشية. اليوم، يشهد هذا الجيل تحديات جديدة، ويعاني من حالة من التشويش في تحديد أولوياته السياسية. فبينما تتزايد القضايا الاقتصادية والاجتماعية التي تؤثر بشكل مباشر على حياتهم، لا يوجد لديهم مرجعية فكرية ثابتة توجههم نحو الحلول.
في وقت سابق، كان هناك وضوح في التوجهات الفكرية والسياسية، ولكن اليوم، يبدو أن هذا الجيل في حالة من اللامبالاة وعدم الاستقرار الفكري، ما يضعهم في مواجهة تحديات مستقبلية في وقت يتطلب فيه العالم بشكل عام إحياء الفكر النقدي واليساري لمواجهة الأزمات العالمية الكبرى.
الهيمونية الثقافية: إرث غرامشي في مقاومة الفاشية والدكتاتورية
تُعتبر الهيمونية الثقافية أحد المفاهيم الأساسية التي قدمها المفكر الإيطالي أنطونيو غرامشي، وهو يوضح فيها كيفية تمكن الطبقات الاجتماعية المهيمنة من السيطرة على المجتمع ليس فقط من خلال القوة السياسية والاقتصادية المباشرة، ولكن عبر التحكم في الوعي الثقافي والجماعي للشعوب. غرامشي كان يرى أن الهيمنة ليست مجرد سيطرة قسرية، بل هي عملية ثقافية وفكرية تتمثل في تطبيع الناس على قبول الهيمنة كأمر طبيعي. لذلك، كان غرامشي يدعو إلى ضرورة مقاومة هذه الهيمنة عبر ثورة ثقافية تعمل على تغيير الوعي الجماعي للشعوب، وهو ما سعى إليه من خلال مفاهيمه حول النضال الثقافي والسياسي.
وفيما كانت إيطاليا تحت الحكم الفاشي، كان غرامشي من أبرز القادة الفكريين الذين ناضلوا ضد الظلم الاجتماعي والسياسي، حيث كان يعتقد أن المقاومة الفعالة يجب أن تشمل الانخراط في الثقافة والسياسة معًا، والعمل على بناء ثقافة بديلة ترفض الهيمنة الفاشية.
أنطونيو غرامشي: حياً في وجدان الثوار حول العالم
يبقى أنطونيو غرامشي حياً في وجدان الثوار حول العالم، حيث شكلت أفكاره وتوجهاته منارة لكل من يناضل ضد الظلم والقهر. لا يزال إرثه الفكري يشع في حركة المقاومة ضد الفاشية والدكتاتورية، حيث كانت تعاليمه أساسًا لحركات الثورة الاجتماعية والسياسية.
غرامشي، الذي اعتُقل وسُجن في ظل حكم الفاشية الإيطالية، لم يكن مجرد مفكر، بل كان رائداً للثوار في النضال ضد الظلم. في سجنه، كتب العديد من مؤلفاته الشهيرة، أبرزها “ملاحظات السجن”، التي تكشف عن عمق فهمه للعلاقات الاجتماعية والثقافية وتأثيراتها على النضال السياسي.
من أشهر أقواله:
- “نحن بحاجة إلى بناء هيمونية ثقافية جديدة، وتحرير الوعي الشعبي من الأيديولوجيات السائدة.”
- “الإنسان لا يُصنع من خلال الثورة السياسية فقط، بل من خلال الثورة الثقافية التي تقوم بإعادة صياغة العقل.”
- “يجب أن نعمل على تعبئة الطبقات الشعبية لتدرك قوتها وتنفذ مشروعها الثوري من خلال المشاركة الفعالة.”
غرامشي دعا إلى تجاوز الفكرة البسيطة للثورة المسلحة، مشيرًا إلى أهمية الهيمونية الثقافية التي تعني السيطرة على الثقافة والفكر الشعبي، وهو ما أتاح للشعوب من خلاله تطوير إرادتها السياسية والثقافية لمواجهة الطغيان، سواء كان فاشيًا أو دكتاتوريًا.
اليوم، تبقى أفكار غرامشي خالدة، كمثال على كيف يمكن أن تتحقق المقاومة الحقيقية عندما تجمع بين العمل السياسي والثقافي، وكيف أن قوة الشعوب تكمن في قدرتها على تشكيل وعيها الجماعي ومقاومة الأيديولوجيات السائدة.
غرامشي لا يزال حافزًا للثوار والمفكرين في عالم اليوم، خاصة في ظل تنامي الخطابات القومية والرجعية في مختلف أنحاء العالم. في عالم يشهد صعود اليمين المتطرف والتحديات السياسية والاجتماعية المعقدة، تبقى الهيمونية الثقافية بمثابة أداة فكرية أساسية لتحفيز الشعوب على إعادة تقييم السلطة الثقافية والسياسية في مجتمعاتهم، والعمل على بناء مستقبل يعتمد على الحرية والعدالة الاجتماعية.