كتب جورج حايك: لا شك في أن مواقع التواصل الاجتماعي باتت ساحة لتصفية الحسابات بين الأحزاب السياسية المتخاصمة في لبنان، وقد أشعلت حادثة الكحالة هذه المواقع بين أنصار جبهتي “الممانعة” و”المعارضة”، فشهدت سجالات ومشادات حادة وتعليقات لا تمت إلى الأخلاق بصلة، وخصوصاً من الجيوش الالكترونية “الممانعة” التي تميل عادة إلى تخوين خصومها وكيل الشتائم لهم واستخدام لغة مذهبيّة بعيداً عن المنطق ومفاهيم الدولة والدستور والقرارات الدولية.
مالت الأجواء في لبنان في اليومين المنصرمين إلى التوتر على خلفية اغتيال القيادي في “القوات اللبنانية” الياس الحصروني في بلدة عين ابل الجنوبية، وانقلاب شاحنة سلاح لـ (ا ل ح ز ب) على كوع الكحالة، واصطدام أهلها مع عناصره، مما أدى إلى مقتل فادي بجاني من الكحالة واحمد علي قصاص من (ا ل ح ز ب).
طبعاً سلاح الشاحنة التي انقلبت في الكحالة لا تعود إلى السلطات الشرعية اللبنانية، إنما الى ميليشيا (ا ل ح ز ب)، وهذا ما اعتبره كثر من المغردين اللبنانيين على منصة X أو “تويتر” سابقاً، تحدياً للدولة والمؤسسة العسكرية والدستور والقانون، فيما اعتبره أنصار (ا ل ح ز ب) فعلاً مقاوماً ينطبق مع مشروع محور الممانعة.
لكن القضية أبعد من ذلك بكثير، فأنصار (ا ل ح ز ب) وأكثرية الجيش الالكتروني التابع له، لا يتحدثون بمنطق سياسي، إلا قلّة منهم، بل يلجأون سريعاً إلى تخوين من يعارضهم واتهامه بأشنع الألفاظ والشتائم، ويبدو ان (ا ل ح ز ب) أعدّ هذا الجيش “المنظم” الذي يواكب العصر عبر الانترنت، إلا أنه أغفل تهذيبه وتسليحه بالمنطق والمعايير الاخلاقية من أجل الترويج لمشروعه. وكي لا نبتعد عن موضوع الكحالة كثيراً، فقد أطلق الجيش الالكتروني لـ(ا ل ح ز ب) هاشتاغ “صهاينة الداخل” على معارضيه، في إشارة إلى أن كل من يعارضه هو صهيوني وعميل لإسرائيل، وهذا ما يجافي الحقيقة، لأن اكثرية اللبنانيين يعتبرون اسرائيل عدوّة، ولا خلاف على ذلك، انما لا يريدون أيضاً السلاح غير الشرعي الذي يخدم اسرائيل بطريقة غير مباشرة لتبرير اعتداءاتها على لبنان، إضافة إلى مخاوف اللبنانيين من استخدام هذا السلاح خدمة لمالكته أي الجمهورية الاسلامية الايرانية.
والمستغرب ان انصار (ا ل ح ز ب) ركّزوا بتغريداتهم على أن عناصره دافعت عن مقامات المسيحيين في لبنان وسوريا من هجمات داعش، علماً أن لا مسيحيين يرضون بأن يكونوا أهل ذمة، وهم لا يعترفون إلا بالمؤسسة العسكرية للدفاع عنهم، وإذا عجزت عن ذلك، في إمكان المسيحيين الدفاع عن أنفسهم، والتاريخ القريب والبعيد شاهد على ذلك، من مقاومة الفصائل الفلسطينية المسلحة، إلى مقاومة الاحتلال السوري.
أما بقية التغريدات، فلا تنطبق عليها المعايير الخلافية ويغلب عليها طابع الإسفاف والإبتذال والتمادي في التخوين.
وهذا الأداء بات أسلوباً يعتمده جيش (ا ل ح ز ب) الالكتروني في مجابهة معارضيه على مواقع التواصل الاجتماعي، حيث بات التهديد والوعيد والتخوين والتنمر سمة هذا الجمهور، يستخدمونها لترهيب الرأي الآخر وإلغائه من خلال حملات منظمة ومدفوعة تعمل بأدوات واستراتيجيات وتوزيع مهمات، إضافة إلى استخدام تقنيات وأدوات تتجاوز قدرة الأفراد، لتشير بوضوح إلى منظومة توجيهية وإدارية كاملة لهذه الممارسات. وقد اختبر ذلك في أحداث وقضايا اساسية قبل حادثة الكحالة، وخصوصاً ضد الناشط لقمان سليم قبل اغتياله، إذ تعرض خلالها للتهديد والتوعد بـ “كاتم الصوت”، بعد اتهامه بالخيانة والعمالة، لتستمر الحملة نفسها بعد اغتياله بهدف تبرير القتل، ووضعه في سياق يروج لرواية “مشغلوه تخلصوا منه”. فيما كان جواد نصر الله، نجل الأمين العام لـ(ا ل ح ز ب) حسن نصرالله، من أبرز المحرضين ومن المشاركين في تلك الحملات، وبشكل علني عبر حسابه على موقع تويتر.
الاختلاف مع جمهور (ا ل ح ز ب) ما عاد اختلافاً طبيعياً في إطار وجهات النظر والآراء السياسية، فتكرار الأسلوب نفسه في الحملات والهجمات التي تتخذ فوراً طابعاً شخصياً، وتتجه إلى الترهيب والتهديد والتجريح والتنمر، إنما تنم عن مجتمع لا يقبل الديمقراطية والاختلاف مع الآخر، وتدل على فائض قوة وهمي ناتج من الخوف من الآخر.
ولا يختلف اثنان على ان القوي هو الذي يستطيع المحاورة، يعرض حججه ويناقشها ويرد بالبينة والدليل والحجج المنطقية، ولكن حين تكون فارغاً من الحجج ليس أمامك إلا اللجوء إلى الضرب والشتم والتخوين، بسبب عدم وجود سردية مقنعة يقدمونها للرأي العام تثبت صحة رأيهم.
والسمة الأساسية لمناصري (ا ل ح ز ب) انهم لا يناقشون ولا يتحاورون، فهم دائماً يمتلكون الحقيقة الكاملة، فيمضون في مراقبة حسابات ونشاطات اللبنانيين الآخرين، ولعب دور المطاوعة، أو الشرطة الوطنية التي تحاسب كل من يكتب أفكاراً يعتقدونها تتعارض مع الشرف (ا ل ح ز ب) والكرامة والعنفوان، وهي مفاهيم لا قياس مادياً لها.
واللافت ان مناصري (ا ل ح ز ب) على مواقع التواصل ليسوا حسابات فردية، بل هم جنود في ماكينة التعبئة الإعلامية، وبينهم ما يمكن وصفهم بالضباط، وهؤلاء عادة من الصحافيين أو الوجوه المعروفة، ويقومون بالسخرية ممن يعارضون (ا ل ح ز ب)، ويضمنون تغريداتهم إشارات متفق عليها، مثل علامة تعجب حمراء اللون، في نصّ التغريدة. وفي غضون ساعات، يعيد نشر التغريدة مئات بل آلاف الحسابات المؤيدة لـ(ا ل ح ز ب)، وجلّ هذه الحسابات لا هوية واضحة لها، فقط صورة أسد أو دبابة أو راية كربلائية مع اسماء مثل أبو علي أو زهراء.
ويعود هذا النهج إلى الأنظمة العقائدية الشمولية، مثل جمهورية إيران الإسلامية و(ا ل ح ز ب)، لا تناقش، بل تفرض ماكينات الدعاية التابعة لها وجهات نظر ثابتة. وماكينات الدعاية هذه يسميها (ا ل ح ز ب) إعلامية، ولكنها ليست إعلاماً حراً، بل من أدوات المواجهة، لذا اسمها “التعبئة الإعلامية”، على غرار “التعبئة الطلابية” وباقي الأجنحة التابعة لـ(ا ل ح ز ب).
ولأن في نموذج إيران و(ا ل ح ز ب)، يلعب المثقف دور الجندي المأمور، تتخيّل جماعة إيران و(ا ل ح ز ب) كل مثقفي العالم وصحافييه على هذا الشكل، لذا، لا يؤمن “محور الممانعة” بوجود رأي مستقل، بل يرى أن كل الناس مرتزقة ومدفوعة الأجر في كل آرائها ومواقفها.
هذا هو العالم الذي يعيش فيه (ا ل ح ز ب): عواصم الخارج تموّل أحزاب الداخل ويتم “تركيب دينة الجرة” كل يوم بحسب تقلبات المواقف، وهذا صحيح وينطبق على ( ا ل ح ز ب) وأحزاب كثيرة. لكن كثيرين آخرين يعارضون (ا ل ح ز ب) وجمهورية إيران الإسلامية، ولا يريدون سوى الحياد للبنان دولة المؤسسات والقانون، من دون أن يكون ثمن موقفهم ثلاثين من الفضة!
اعتاد المغردون في لبنان عبر منصة X أو “تويتر” على هذا السلوك الأرعن والوقح في التعاطي معهم وكيل شتى انواع الاتهامات لهم، واتهام كل من يعارض او يعترض بالخيانة والعمالة والتهديد بعظائم الامور. فالعمالة هي التهمة الجاهزة لدى (ا ل ح ز ب) التي يلصقها بكل من يخالفه الرأي، يمارسها بشكل وقح لارهاب الذي يتجرأ على اعتبار ان العمالة هي تعامل وتواطؤ مع العدو وخطيئة لا تغتفر، وهي كبرى المعاصي، فيها السياسي وفيها الوطني، وفيها الشرف والعرض والكرامة، وفيها الأخلاقي. وكأنه يسقط كل ما هو فيه وما يمارسه على خصمه، اذ ان كل هذه المعاصي يجسدها هو بامتياز كونه تابعاً لدولة ونظاماً خارجياً، ليس فقط غير لبناني وانما حتى غير عربي، هو ايران.
اما مناصرو (ا ل ح ز ب) فانهم يجاهرون بعمالتهم ويعتزون بها! اذا مارسوها فهي مدعاة للتفاخر ومبعث للنشوة والطاعة والطمأنينة والتطهر، واذا مارسها غيرهم تصبح تهمة ولعنة وخيانة، وجزاؤها احياناً التصفية. ففي مسألة ترسيم حدود لبنان البحرية مع اسرائيل والمفاوضات بوساطة اميركية التي يتهم (ا ل ح ز ب) اخصامه والمجموعات الشبابية المنتفضة بالتبعية لها وقبض اموالها. فيما هو لم يعترض في الأساس على هذه المفاوضات، لأن من اطلقها منذ سنوات ووضع لها اطاراً مع واشنطن كان حليفه نبيه بري رئيس البرلمان ورئيس حركة “امل”. وهكذا، فان العمالة تصبح وجهة نظر او تهمة جاهزة وغب الطلب نلبسها اللباس الذي يناسب مصالحنا!
وفي الحقيقة ان (ا ل ح ز ب) في ادائه في الأعوام الأخيرة، بات ضرورة إسرائيلية. لنفترض ان لبنان بطوائفه وملله وجماعاته قد بنى دولة مدنية حديثة مستقلة حيادية مسالمة ومتطورة، لانتعش هذا البلد اقتصادياً وعلمياً وتجارياً وثقافياً وطبياً واجتماعياً، وأصبح النقيض لبلدان التهميش المجاورة، وتجربة يُضرب بها المثال في التعايش، تشكل نقيضاً لمجتمع إسرائيلي منقسم بين مكوّناته وجيرانه المباشرين (الفلسطينيين). ذلك النموذج الحضاري لا يراد له أن يبنى في لبنان لمصالح مباشرة لإسرائيل. ألا يخدم (ا ل ح ز ب) اسرائيل من خلال مشروعه المدمّر؟
مناهضو (ا ل ح ز ب) على مواقع التواصل الاجتماعي يغذّون منطقهم السياسي من خلال حكاياته وادائه ومواقفه المنحرفة، فيضعون له النقاط على الحروف، ويبدو أن هالة (ا ل ح ز ب) ومقاومته قد سقطتا، وخصوصاً بعد انكشاف أدوار سراياه المقاومة في تخريب العلاقات مع بقية اللبنانيين بحجج واهية وحتى يتم التستر على مسؤولية (ا ل ح ز ب) في إيصال لبنان الى الجحيم خدمة لمشغله في الجمهورية الإسلامية.
أمام هذا الواقع لا بد من مصارحة (ا ل ح ز ب) وكل محور الممانعة ووفق جميع المراقبين، بأن اداء مناصريه في مواقع التواصل الاجتماعي يعكس مدى عمق الازمة الاخلاقية التي يتخبّط بها، وباتت تستحق من إدارات منصات التواصل الاجتماعية العالمية وضع شرط جديدة ومراقبة المحتوى من دون الاعتماد على الذكاء الاصطناعي الذي لا يميّز المصنف ارهابياً من المؤمن بالقانون والشرعية الدولية.